لم يسقط لبنان بعد. الخيار العربي بالتخلي عنه ليس خيارا. لو لم تكن للبنان كل تلك الأهمية، على الرغم من كل الأحداث المصيرية التي تدور على أرض سوريا، لما كان كل هذا التركيز الإيراني عليه.
هل لبنان مهم أم لا؟ هل يفترض أن يحصل لبنان على دعم عربي لمساعدته في الصمود في وجه المشروع التوسعي الإيراني الذي جعل من “حزب الله” أداة من أدواته؟ لم يعد “حزب الله” مجرّد حزب لبناني، لا لشيء سوى لأنه لم يكن يوما كذلك. كان دوما عبارة عن ميليشيا مذهبية تشكّل لواء من ألوية “الحرس الثوري” الإيراني. هناك الآن ما هو أبعد من ذلك بكثير بعد الدور الذي لعبه مقاتلو الحزب من اللبنانيين، على صعيد إبقاء بشّار الأسد في دمشق في ظلّ حماية إيرانية وبفضل الدعم الروسي.
ليس سرّا أنّ المشروع التوسّعي الإيراني الذي أسس له آية الله الخميني بعد استيلائه على السلطة في إيران في مثل هذه الأيّام من العام 1979، إنما انطلق من لبنان بعدما صدّه العراق. كان ذلك بفضل التعاون القائم بين النظـام في سوريا، وكان على رأسه حافظ الأسـد، والنظام الجديد في إيران. كان في أساس هذا التعاون الرابط المذهبي ذو الأبعاد السياسية وذلك بغض النظر عمّا إذا كان العلويون في سوريا مسلمين أم لا.
عرف حافظ الأسد كيف يبتز العرب، خصوصا أهل الخليج بواسطة إيران، وعرف في الوقت ذاته كيف يبتز إيران التي كانت في حاجة إلى بلد عربي يدعمها في حربها مع العراق بين العامين 1980 و1988. تفوّق حافظ الأسد على الإيرانيين في لعبة ممارسة الدهاء… لكنّهم انتصروا عليه في نهاية المطاف عندما استغلوا إدخاله لهم إلى لبنان لإقامة قاعدة فيه. ما لبثت هذه القاعدة أن توسّعت إلى أبعد حدود في عهد بشّار الأسد.
وضع بشّار الأسد، منذ اليوم الذي خلف فيه والده، كل بيضه في السلة الإيرانية. شارك، بطريقة أو بأخرى، في ارتكاب جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه في شباط – فبراير من العام 2005. دفع ثمن ذلك خروجه عسكريا وأمنيا من لبنان. كانت تلك فرصة لا تعوّض كي تسعى إيران إلى ملء الفراغ الذي خلفه انتهاء الوصاية السورية.
قاوم لبنان في مرحلة ما بعد الخروج السوري محاولات فرض الوصاية الإيرانية عليه بشراسة. قاوم اللبنانيون السلاح الإيراني الموجّه إلى صدورهم العارية، والذي حمله مقاتلو “حزب الله”، منذ اليوم الأول لاغتيال رفيق الحريري. تلت الاغتيال سلسلة من الجرائم كان الهدف منها تغطية الجريمة الكبيرة. ذهبت ضحية هذه الجرائم مجموعة كبيرة من اللبنانيين الشرفاء الذين يؤمنون بالفعل بعروبة لبنان ودوره الطليعي في المنطقة ورفضه أي وصاية خارجية. خسر لبنان سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار أمين الجميّل وأنطوان غانم ووسام عيد ووسام الحسن ومحمد شطح. هؤلاء ضحوا بحياتهم من أجل لبنان واستقلال لبنان مع الشهداء الأحياء مثل مروان حماده وميّ شدياق.
تظل المقاومة اللبنانية، على الرغم من كلّ ما تعانيه من انقسامات، في وضع أقوى من المقاومة الفرنسية للنازيين الذين دخلوا باريس دخول الفاتحين وكانوا يحظون بدعم قسم لا بأس به من المواطنين الفرنسيين
قاوم لبنان ولا يزال يقاوم. ما تعرّض له لبنان منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم لم يتعرّض له غيرهم. أقام الفلسطينيون، بدعم من النظام السوري، بل بدفع منه، قواعد عسكرية في لبنان، وذلك قبل أن يحتكر حافظ الأسد السلطة في سوريا في خريف العام 1970. فالأسد الأب كان وزيرا للدفاع منذ العام 1966 ولعب كل الأدوار المطلوبة منه كي يؤمن له الأميركي والإسرائيلي وضع اليد على لبنان.
جلس العرب في معظم الأحيان يصفقون لحافظ الأسد الذي استغل إلى أبعد حدود جريمة غزو صدام حسين للكويت في العام 1990. كانت تلك فرصة لا تعوض كي يشارك، ولو رمزيا، في إخراج القوات العراقية من الكويت، في مقابل استكمال السيطرة السورية على لبنان، كل لبنان.لا شك أن العرب، على رأسهم المملكة العربية السعودية ساعدوا لبنان في صموده، لكنّ ما لا بدّ من أخذه في الاعتبار أن ثمة حاجة مستمرة إلى مواجهة المشروع التوسعي الإيراني الذي بلغ اليمن عن طريق اعتماد سياسة النفس الطويل فيها. هذه السياسة التي يتقنها الإيرانيون هي في أساس الفكرة التي يقوم عليها مشروعهم الذي يستخدم إثارة الغرائز المذهبية خير استخدام.
لم يسقط لبنان كليا ونهائيا بعد، وذلك على الرغم من كلّ الضربات التي تلقاها. كان ينهض بعد كل ضربة. نهض من ضربة اغتيال رفيق الحريري ورد بتظاهرة الرابع عشر من آذار – مارس 2005 التي أخرجت النظام السوري من أراضيه. نهض من حرب صيف 2006 التي افتعلها “حزب الله” ومكّنت إسرائيل من تدمير جزء من البنية التحتية. نهض من الاعتصام وسط بيروت الذي استهدف تعطيل الحياة الاقتصادية وتهجير أكبر عدد من اللبنانيين، خصوصا من المسيحيين، إلى خارج لبنان. انتصر لبنان في حرب مخيم نهر البارد الفلسطيني التي استهدفت إقامة “إمارة إسلامية” في الشمال اللبناني وتصوير أهله بأنهم “إرهابيون” من منطلق أنهم سنة في معظمهم، وأنهم من أنصار “تيار المستقبل”. نهض لبنان بعد غزوة بيروت والجبل في أيار – مايو 2008 ومنع “حزب الله” من السيطرة على مجلس النوّاب في انتخابات 2009.
صحيح أنّه لم تحصل ترجمة على الأرض لهذا الانتصار في تلك الانتخابات التي بذل فيها “حزب الله” والذين يقفون وراءه كلّ ما يستطيعون لتأمين الحصول على أكثرية نيابية. لكنّ الصحيح أيضا أن اللبنانيين أرادوا القول، بكل بساطة، أن السلاح الذي واجه أهل بيروت والجبل لن يقضي على رغبتهم بالتمسك بثقافة الحياة.
في أساس المقاومة اللبنانية الشعور العميق أن المطلوب بقاء لبنان جزءا لا يتجزأ من الأسرة العربية. فالملفت أن كل الجهود الإيرانية منصبة منذ سنوات عدّة على عزل لبنان عن محيطه العربي وتحويل صحافته ووسائل الإعلام فيه إلى أبواق في خدمة “الممانعة”. فوق ذلك كله، يبدو مطلوبا أن تكون بيروت قاعدة للإعلام الإيراني في المنطقة. وهذا ما يفسّر ذلك النشاط الحوثي وغيره من النشاطات المماثلة من العاصمة اللبنانية…
لم يسقط لبنان بعد. الخيار العربي بالتخلي عنه ليس خيارا. لو لم تكن للبنان كلّ تلك الأهمّية، على الرغم من كلّ الأحداث الكبيرة والمصيرية التي تدور على أرض سوريا، لما كان كلّ هذا التركيز الإيراني عليه وعلى كيفية إحكام السيطرة على مجلس النوّاب الجديد الذي يفترض أن تأتي به انتخابات السادس من أيّار – مايو المقبل.
لم ينته لبنان بعد ولم يسقط. في عز الاحتلال الألماني لفرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، بقيت بريطانيا تساعد المقاومة الفرنسية التي جسدها الجنرال شارل ديغول. ظـل ونستون تشرشل يدعم ديغول في الوقت الذي كانت القوات الأميركية والحليفة تستعد للانطلاق من الأراضي البريطانية لتحرير فرنسا من النازية.
تظل المقاومة اللبنانية، على الرغم من كلّ ما تعانيه من انقسامات، في وضع أقوى من المقاومة الفرنسية للنازيين الذين دخلوا باريس دخول الفاتحين وكانوا يحظون بدعم قسم لا بأس به من المواطنين الفرنسيين الذين فضلوا التعاون مع المحتل على مقاومة الاحتلال.
هناك أكثرية لبنانية ترفض التعاون مع المحتل. هذه الأكثرية لا يمكن الاستخفاف بها في حال كان مطلوبا عربيا متابعة التصدي للمشروع الإيراني الذي يعتقد أصحابه أنّهم وحدهم من يمتلك النفس الطويل…