للمرة الأولى منذ 13 عاماً، يصل سعد الحريري إلى السعودية، ليس بصفته زعيماً سياسياً لطائفته أو لفريق 14 آذار، وكذلك ليس بصفته «متقدماً» بأشواط على غيره من الرؤساء أو القيادات السياسية والروحية، وخصوصاً ضمن بيئته الطائفية.
للمرة الأولى يصل سعد الحريري إلى الرياض ليس بصفته وريث الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي لم تستقبله المملكة بأيّ صفة رسمية، وخصوصاً في مرحلة تبوّئه سدة الرئاسة الثالثة بين عامي 1992 و2005، بل كانت تستقبله بصفته وكيلها السياسي الحصري في لبنان وبعض المنطقة، وهي مهمة كانت تجعله أحياناً موفداً ملكياً سعودياً أو وزير خارجية الظل في زمن وزير خارجية المملكة الراحل سعود الفيصل.
نجح رفيق الحريري في نسج منظومة علاقات لم يسبقه أحد إليها من أقرانه حلفاء المملكة، لا في لبنان ولا في أي من بلدان العالمين العربي والإسلامي. هذه المنظومة بدأت مع الملك الراحل فهد بن عبد العزيز، وورّثها إلى نجله سعد في زمن الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، لكن ما إن احتل سلمان بن عبد العزيز سدة العرش الملكي، حتى تبدّت ملامح علاقة من نوع مختلف بين المملكة وسعد الحريري.

هذه العلاقة لم يحدد مسارها أو مآلها الملك سلمان، بل نجله ولي العهد محمد بن سلمان، وكان «التتويج» باستدراج سعد الحريري إلى المملكة في مطلع تشرين الثاني الماضي وفرض استقالته من رئاسة الحكومة ووضعه في الإقامة الجبرية التي أخرجه منها الأميركيون والفرنسيون بالدرجة الأولى.
منذ أن عاد الحريري إلى بيروت، فتحت صفحة جديدة في علاقات آل الحريري بالسعودية. أولاً، لم يلتزم الرجل بـ«الوصفة السبهانية»، فقرّر طيّ صفحة الاستقالة والمضيّ في مسار تسوية سياسية أتت بميشال عون رئيساً للجمهورية وأعادته إلى رئاسة الحكومة. الخطوة الثانية هي المضيّ في خيار الانتخابات النيابية ورفض تأجيلها، رغم كل الإلحاح من بيته الداخلي وحلفاء الداخل والخارج.
الخطوة الثالثة، إشعار كل من كان مشتبهاً فيه بتورطه في تحريض السعودية عليه، بأنه لا بد أن يدفع الثمن. رتّب الحريري بعض بيته الداخلي، ومن ثم بلغت رسائله كل من يعنيهم الأمر من الحلفاء، وأوّلهم سمير جعجع. بلغ المشهد ذروته في احتفالية الرابع عشر من شباط 2018. مشهدية أكملها بخطابه السياسي الأول من نوعه الذي لا يرد فيه أي ذكر للمملكة، فيما كان مدير مكتبه نادر الحريري يضع بصماته على خطة انتخابية تقتضي التعاون سياسياً مع التيار الوطني الحر والابتعاد عن حلفاء مثل القوات اللبنانية والكتائب.
فجأة يكثر الحديث عن زيارة موفد سعودي إلى بيروت اسمه نزار العَلَوْلا. الزيارة التي تأجلت أكثر من مرة حصلت أول من أمس. أتى الرجل الذي تسلم الملف اللبناني خلفاً للوزير ثامر السبهان، بصفته موفداً ملكياً، يرافقه وليد البخاري الذي كان يتولى مهمات القائم بأعمال سفارة بيروت (منذ أن أُنهيت خدمة السفير السابق علي عواض العسيري)، وكان البعض يلقبه بـ«ظل السبهان» في لبنان، قبل أن يُستدعى إلى بلاده ويحل محله السفير الحالي وليد اليعقوب.
لم تشكّل زيارة العلولا، المستشار في الديوان الملكي، تعبيراً عن فتح صفحة جديدة في العلاقات اللبنانية ــ السعودية، بل شكلت مرحلة جديدة في علاقة المملكة بآل الحريري. قررت القيادة السعودية إزالة آثار أزمة الاحتجاز القسري في «الريتز»، حتى لا يقال إنها أخلت الساحة اللبنانية للإيرانيين. عنوان هذه المرحلة هو العودة إلى ما قبل رفيق الحريري: علاقة عادية جداً بين دولة ودولة.


 

 


عندما كان الموفد السعودي يستأذن رئيس الجمهورية بأنه سيلتقي رئيسي المجلس النيابي والحكومة ويوجه دعوة رسمية للثاني من «طويل العمر»، قرأ المعنيون «المكتوب» من عنوانه. المصالح السعودية تفترض التواصل مع الحريري كرئيس وزارة، من دون أن يتقدم على غيره. شملت الجولة الملكية الرؤساء الثلاثة في المقرات الرسمية. بقية البرنامج كان مخصّصاً لـ«أصدقاء المملكة»، وبينهم بطبيعة الحال ثلاثة رؤساء حكومة سابقين، هم تمام سلام وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي، بفارق أن اللقاء مع الأخير كان مع «خبز وملح» وفطور صباحي ووعد بأن يكون اللقاء المقبل معه في منزله في طرابلس وليس في بيروت.
ولعل المحطة الأبرز في الجولة السعودية كانت في معراب، مقر رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي اعتبره نزار العلولا «بيته». هناك كان اللقاء مع عشاء و«خلاصات»، قبل أن تستكمل الجولة مع «أصدقاء» آخرين أبرزهم الرئيس ميشال سليمان والرئيس أمين الجميّل (ومعه رئيس حزب الكتائب سامي الجميّل).
النافر في برنامج الزيارة السعودية هو استثناء رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط من برنامجها، على خلفية مواقف أدلى بها إلى «الأخبار» مطلع هذا الشهر، وقال فيها إنه لن يلبّي أيّ دعوة لزيارة السعودية إذا كان عنوانها إعادة إحياء محاور الاصطفافات السياسية.
في هذا السياق، علّق النائب جنبلاط على عدم طلب الموفد السعودي موعداً لزيارته بالقول «لا علم لي بالأسباب». ورجّح جنبلاط في دردشة مع «الأخبار» أن تكون مقاطعته سعودياً «ربما ترتبط بموقفي من حرب اليمن التي اعتبرتها حرباً عبثية، وكذلك موقفي ضد تخصيص شركة آرامكو». وأضاف «لذلك، عندما تسمح الظروف بلقاء مباشر، سأشرح موقفي بالتفصيل حرصاً على المملكة».
في التحليل، تؤكد مصادر لبنانية، مواكبة للزائر السعودي، أن الانتخابات النيابية شكلت مدخلاً لعودة السعودية إلى لبنان، إذ تبين أن أحد أهداف الزيارة هو إعادة التواصل بين «المستقبل» و«القوات اللبنانية»، وهي المهمة التي استبعدت المصادر نجاحها «كون الزيارة أتت متأخرة كثيراً»، حتى إن العلولا استغرب في حديثه مع سمير جعجع كيف أن الحريري يقترب بهذا الشكل من التيار الوطني الحر ويبتعد عن القوات.
وأكدت المصادر أن الحريري سيلتقي خلال زيارته للمملكة الملك السعودي وولي العهد، وسيكون موضوع إعادة ترميم صفوف 14 آذار، في الانتخابات النيابية المقبلة، جزءاً أساسياً من المحادثات، ذلك أن المملكة تنظر إلى استحقاق 6 أيار من زاوية ما سيفرزه من نتائج إما ستصبّ في مصلحة خط يبدأ في بيت الوسط وينتهي في السعودية ودول محور الاعتدال أو في مصلحة خط يبدأ في الضاحية الجنوبية وينتهي في إيران، وعلى سعد الحريري أن يختار في أي خط سيكون؟
وعلم أن العلولا استمع الى شرح قدمه جعجع عن الواقع الانتخابي، وأبلغه أن القوات تحاول التحالف مع المستقبل حيث أمكن التحالف بين الاثنين، «لكن القرار ليس بيدنا بل بيدهم». وعرض جعجع تفاصيل أجواء الاجتماعات التي يعقدها الوزيران ملحم رياشي وغطاس خوري، أو تلك التي يعقدها رياشي مع الرئيس الحريري ومدير مكتبه نادر الحريري، ما دفع الموفد السعودي الى الاستغراب سائلاً لماذا حصل ما حصل؟ ولماذا يتصرف الحريري على هذا النحو معكم؟
وختمت المصادر بالتشكيك في عودة الحريري الى الحضن السعودي، حتى بعد زيارته للرياض، وقالت: «يبدو أن السعودية صارت في مكان آخر، حيث إن المملكة في عهد ولي العهد غيرها في عهد من سبقه». وأشارت إلى أن «استمرار الامور على حالها سيضع الحريري والبلد على عتبة مرحلة جديدة في السابع من أيار وليس في السادس منه»