زار ساترفيلد، المسؤول الكبير في وزارة الخارجية الأميركية، لبنانَ قبل زيارة وزير الخارجية تيلرسون وبعدها. وشاع أنه كانت هناك وساطة أميركية بين لبنان وإسرائيل على أمرين: الجدار الذي تبنيه الدولة العبرية على الحدود البرية مع لبنان والحدود البحرية مع فلسطين، والتي يريد لبنان البحث عن النفط والغاز فيها (بلوك 9)، وتزعم إسرائيل أنها مختلفةٌ مع لبنان على حوالى الثلاثمائة كيلو متر بحري منها. وقد قال المسؤولون اللبنانيون إنهم رفضوا الاعتداءات الإسرائيلية في البر والبحر، ورفضوا خط الأميركي فريدريك هوف باعتباره حلاً وسطاً بين الطرفين. وقد عاد ساترفيلد من إسرائيل ليقول للبنانيين إنّ الإسرائيليين مصرون على الاستمرار في الجدار، ويعتبرونه داخل «حدودهم»، أما الحدود البحرية فهم مستعدون للتنازل إلى حدود 15% من المطالب بدلاً من 25%، وهو أمر رفضه اللبنانيون. إنما بين ذهاب ساترفيلد إلى إسرائيل وعودته، كان «نصرالله» قد ألقى خطاباً قال فيه إنه لا يحمي استثمارات لبنان البحرية غير صواريخ «حزب الله»، باعتبار أنّ الجيش اللبناني لا يملك صواريخ (!)، وأنه مستعدٌ لوضع قوته الصاروخية في تصرف لبنان إذا قرر المجلس الأعلى للدفاع تكليف الحزب بذلك!
وهناك عدة أمور غريبة في هذا الأمر بالذات. فلبنان تحمي حدوده البرية والبحرية القرارات الدولية، وبخاصةٍ القرار رقم 1701. وبمقتضى القرار هناك نحو 15 ألف عسكري دولي، وعشرة آلاف جندي لبناني على الحدود بين الطرفين منذ عام 2006. وفي البند العاشر من القرار المذكور آلية موجودة على الأرض في حالة حصول أي نزاع تسمى اللجنة الرُباعية، تقودها الأُمم المتحدة. ولذا عندما تصاعد النزاع بين الطرفين على الحدود البرية والبحرية أخيراً، فإنّ اللجنة كان ينبغي أن تجتمع برئاسة الأمين العام للأُمم المتحدة أو مبعوث سامٍ منه. ولم يحصل شيء من ذلك، فلا لبنان نادى اللجنة أو الأُمم المتحدة، ولا إسرائيل، ولا أعضاء مجلس الأمن الدائمون والمسؤولون عن تنفيذ القرار الدولي، ولهم جنودٌ في جنوب لبنان! كل الأطراف اعتمدت على الوساطة الأميركية، وانتهى الأمر بأن صار الأميركيون وسطاء تفاوُض غير مباشر بين إسرائيل و«حزب الله»! بل إنّ لبنان ما ذكّر الأُمم المتحدة بأنّ هناك اعتداءً على سيادته، وينبغي التدخل لإيجاد حل أو الحيلولة من دون تصاعُد النزاع إلى حدود حصول حرب، بعد الاشتعال بين إيران وإسرائيل في سوريا أيضاً. فالجهات الإيرانية والمتأيرنة صارت هي المنوط بها الدفاع عن السيادة في سوريا ولبنان! والطريف أنّ نصر الله ما أراد أن يطلب إذناً من الحكومة اللبنانية لاستخدام صواريخه، بل طلب ذلك من المجلس الأعلى للدفاع الذي يرأسه رئيس الجمهورية! فرئيس الجمهورية ورئيس الحكومة كانا قد أَوكلا للحزب، في تصريحاتٍ علنية، أمرين اثنين: حماية لبنان من إسرائيل لأن الجيش ضعيف، وحماية لبنان من الإرهاب لأن الجيش ضعيفٌ أيضاً! وأتت الوظيفة الثالثة التي لم ينكرها الرئيسان، وهي حماية الثروات اللبنانية من النفط والغاز بصواريخه، وكل هذه الوظائف والمهمات مخالفة للقرارات الدولية، ولسيادة الدولة اللبنانية على أرضها ومياهها!
وهناك انسدادٌ آخر يتعاظم بسب باقتراب موعد الانتخابات في 6 مايو. ولأنّ قانون الانتخابات الذي أُقرّ قبل شهور شديد التعقيد، ويُظهر الجميع باستثناء الأحزاب الشيعية، باعتبارهم خاسرين سلفاً، فإنّ الفوضى ضاربةٌ أطنابها في سائر المعسكرات. وبخاصة أنّ آلية الصوت التفضيلي تجعل الصراع عليه داخل كل لائحة، وليس بين اللوائح المختلفة والمتخاصمة. لذا فهناك تشاؤمٌ شديد من نتائج الانتخابات وتداعياتها التي تزيد الاضطراب السياسي، وبخاصةٍ أن «حزب الله» وحركة «أمل» أعلنا عن مرشيحهما للمقاعد الشيعية الـ27، ودعوا حلفاءهم للانضمام إليهم.
ولنصل إلى الملف الثالث بالغ التعقيد؛ فهناك أزمةٌ ماليةٌ واقتصاديةٌ طاحنة، وتقرير البنك الدولي الأخير يشير إلى إمكان الانهيار المالي خلال عام 2018. وقد خططت الحكومة اللبنانية لثلاث مؤتمرات دولية للدعم والإقراض: في إيطاليا لدعم الجيش اللبناني، وفي فرنسا (باريس 4) لجمع القروض والهبات، وفي بريطانيا لجلب أموال من أجل اللاجئين السوريين. إنما هناك تشاؤمٌ كبيرٌ أيضاً بشأن نتائج هذه التحركات: فالخليجيون لا يُبْدُون تجاوباً، وقد كانوا دائماً الداعمين والمسهمين الرئيسين. والمستثمرون الدوليون والمؤسسات الاستثمارية الأوروبية والأميركية ليست منفتحةً على مقترحات الرهان على الحكومة التي فقدت الكثير من صدقيتها بالإنفاق الكثيف، والغرق في الفساد، والخضوع حتى في القطاع المصرفي لتوجيهات الحزب وممارساته.
الحكم والحكومة عندهما تبرير واحد لكل هذا العجز والاستسلام: الحفاظ على الاستقرار، والبُعد عما يصيب الدول المجاورة وبخاصةٍ في سوريا. إنما كيف يحصل الاستقرار المالي والاجتماعي، إذا كان الحزب المسيطر في لبنان، هو الذي يقتل ويُهجِّر في سوريا، وعلاقته بالقرار الإيراني وليس بلبنان؟!