لا تقع المذبحة المرعبة التي تدور رحاها الان في الغوطة الشرقية، خارج السياسة ، لكنها تسخّف كل جدل سياسي، وتفرغه من أي محتوى إنساني وأخلاقي. البث المباشر لوقائعها، بالصوت والصورة الملونة بالدماء، والذي يجعلها واحدة من أكثر مذابح الحرب السورية علنية،لا يدع مجالا للهروب، ولا يعطي فرصة للتوقف. الجلاد يريد أن يثبت مقولته الاولى، والضحايا يقدمون البرهان على صرختهم الاصلية، الممتدة الى ما قبل سبع سنوات.
فظاعة المذبحة تعفي من المقارنة، وتحيلها الى رقم جديد في سلسلة لامتناهية من بقع الدم المنتشرة على المساحة السورية. هي بالتأكيد ليست المذبحة الاولى، ولن تكون الاخيرة. لعلها الأفظع، الأسرع، والأقل اثارة للضجيج والصخب، خارج سوريا، لا بل خارج الغوطة نفسها، أو في بقية الانحاء السورية العاصية والموعودة بمصير مشابه، مثل إدلب ودرعا وغيرها.. لكل مدينة او بلدة مذبحتها الخاصة، التي لا تعني غير ساكنيها.
لم يخالف النظام وحلفاؤه الروس والايرانيون التقدير الراسخ: تكسب الحرب بالكثير من المذابح والقليل من الإشتباكات. ليس من خيار آخر لتعديل الخلل الهائل في التوازن السكاني، وفي التوزع الديموغرافي، وصولا الى اللحظة التي تتيح الاعلان ان الغالبية السورية، تغيرت ، إنقلبت على نفسها، إستكانت مرة أخرى ، ودخلت في نصف قرن جديد من التسليم بمنطق القوة القاهرة من جهة، والشرذمة الظالمة من جهة أخرى.. وما بينهما من مظاهر وحشية وبربرية أفقدت النظام شرعيته ، وحرمت المعارضة من صدقيتها.
في المذبحة، تبدو تلك الثنائية وهمية، برغم ان حضور النظام أقوى وأفعل من وجود معارضيه على إختلافهم:تتعرض الغوطة الشرقية لحملة إبادة جمعية، فيعود النقاش مرة أخرى الى ما قبل الثورة، الى ما قبل التفاوض الاول ، والقرار الدولي الابرز، الى ما قبل جنيف وسوتشي وأستانة. وهي كلها أماكن ومعالم فقدت قيمتها، ووظيفتها الآن. الحسم العسكري، هو الخيار الاوحد ، وكل ما عداه هوامش وإستراحات على طريق العودة الى ما سبق ربيع العام 2011.
النظام قائم على المذبحة، والمعارضة مدمنة على ندبها. والغوطة تبدو وكأنها أتعس حظاً من بقية البقع السورية التي شهد بعضها ولا يزال حروباً عالمية صغرى، تخوضها القوتان العظميان وعدد من البلدان الاقليمية، وكأنها تقاتل من أجل قارة، وتتنازع على مساحات جغرافية ضيقة أصابتها لعنة التاريخ، وكأنها تصارع على عواصمها وتدافع عن حدودها الخاصة. الغوطة هي الآن خارج هذا المكان وذاك الزمان.
على مدى سنوات راكم النظام عناصر حملته العسكرية، وراكمت المعارضة عناصر هزيمتها. وتحول المدنيون الى عناوين للترهيب من جهة، أو الى دروع بشرية من جهة أخرى. في البدء كان القتال مع النظام أو ضده يتيح تحييد المدنيين، وخوض المواجهة خارج الاماكن السكنية. لكنه جدل متأخر جداً . والثمن باهظ جدا. ولا أحد يريد أن يدفعه ، أو أن يبدي على الاقل إستعداداً لخفضه.
عزلة الغوطة في مذبحتها هي أبشع ما يمكن ان يُسجل، وأقسى ما يمكن أن يُذكر. لن تكون خاتمة المذابح، ولا نهاية حرب، لا يمكن لأحد أن يزعم انه قادر على ترجمة مكاسبه العسكرية الى وقائع سياسية: لا يشعر النظام بالخلاص، ولا يحس الروس بالنصر ، ولا يقرب الايرانيون الغنيمة، ولا يدرك الاتراك الطمأنينة، ولا يفصح الاميركيون عن التقية. الجميع في متاهة سورية، كانت ولا تزال قادرة على إستنزافهم، وعلى تبادل الإستفزاز وعلى تقاسم الهزيمة في ما بينهم، وعلى تحفيزهم لتحويل نساء سوريا وأطفالها وكبارها الى طرائد سهلة، الى أهداف متحركة، متحررة من أرواحها ودمائها.
الغوطة وحيدة. ما عاد السؤال مطروحاً. ثمة من ينتقم لهزائمه الاخيرة. ثمة من يدفع ثمن تلك الهزائم.