مثلما يُعبِّر السجادُ الإيرانيُّ عن ماض سحيق متواصل مما قبل زمن الحداثة الغربية تلتقي فيه الصنعة اليدوية الدقيقة بالرؤية الثقافية الحضارية والفن الرفيع، لا تعبِّر (لا تعبِّر) السينما الإيرانيةُ العميقةُ الشجنِ والبساطةِ التقنيةِ العبقريةِ عن الحالة الثقافية المحدودة جدا للخطاب الديني الإيراني الرسمي وسطحيته الفائضة. يبدو هذا التميّز السينمائي الإيراني المكرّس عالميا وكأنه ظاهرة من خارج السياق أو كأنه أحد “أسرار” الشخصية الإيرانية، كصناعة السجاد منذ قرون، مع فارق أن السجاد سابق لـ”الثورة” ولا تستطيع ادعاءه! بينما السينما الإيرانية بالعديد من تحفها الفنية والانسانية تحصل في الزمن السياسي “الإسلامي” الحالي بمعزل عن تعقيد ظاهرتها: هل هي نتاج مؤهلات النخبة الإيرانية في تضادها مع التنميط السياسي والاجتماعي والثقافي للنظام الديني أم هي والنظام معا حصيلتان متداخلتان متعايشتان لا يمكن فصلهما؟
بعض الظواهر لا تفسير مباشراً لها. وبعضها نعم. لكن بالنتيجة لا بد من تفسير، إنما لننقل البحث إلى إطار أوسع من علاقة السياسة بالثقافة.
هل يجوز لنا في رصد العلاقة السببية، رصد الخلل البنيوي، أن نسأل ما هو سر هذا النجاح السياسي الأمني الهائل لاستراتيجية نظام رجال الدين الإيرانيين في الداخل وفي المحيط خصوصا المشرقي العربي فيما الخطاب الثقافي الرسمي الإيراني هو خطاب سطحي ومستهلك؟ وما أعنيه هنا بالخطاب الثقافي هو حصيلة التوجهات الدعَويّة التي يطل بها النظام على العالم وجمهوره ويَعِد بها.
لنعد قليلا إلى الوراء:
تمكنت الثورة الإسلامية في إيران من السيطرة السياسية خلال تراكم أربعة عقود على معظم شيعة المنطقة بل وآسيا انطلاقاً من “الدولة – الأمة” الإيرانية. هذه السيطرة لم يحصل بحجمها منذ العهد الصفوي. بل تجاوزته ربما على هذا المستوى، أي مستوى الصلة بين الدولة الإيرانية والشيعة الموجودين في دول أخرى. فوقتئذٍ تحوّل الشيعة الاثنا عشرية في الشام والعراق والأناضول والقوقاز إلى قوة اعتراض، تارة سرية وطورا علنية، ضد الامبراطورية العثمانية المنافسة. أما اليوم فهناك نظام حكم “شيعي” يحكم العراق ويدين بالولاء الإقليمي لإيران والولاء الدولي للولايات المتحدة الأميركية، وصراع داخلي وخارجي هائل في سوريا حصل فيه التشييع السياسي (وليس المذهبي) للطائفة العلوية، وفي لبنان نفوذ كبير للشيعية السياسية الموالية لإيران يشهد نشوء ظاهرة فريدة داخل بنية لبنان وهي وجود جيش “إيراني” مدرّب تدريبا عاليا ومجرَّبٌ في حربين إقليميتين مع إسرائيل وفي الحرب الأهلية السورية المُدَوَّلة. مادة هذا الجيش، وهو “حزب الله”، انطلقت من عناصر شيعية لبنانية يعني عربية جرت إعادة تربيتهم بل “صناعتهم” بكل الكفاءة التنظيمية التقليدية الإيرانية للعمل السري وبالاستناد طبعا إلى جاذبية أيديولوجية لسنوات الثورة الإيرانية الأولى.
لكن، كمثل كل الثورات، الصغيرة والكبيرة، والحدث الثوري الإيراني حدثٌ جللٌ في التاريخ الثوري العالمي، تصطدم هذه الثورة بالحقائق العميقة والصلبة والوجودية للحضارة المعاصرة، وهو التفوّق الحضاري الغربي.
الاتفاق النووي الإيراني الأميركي، هو بمعنى ما، حصيلة الوعي “الشقي” العميق للنظام الديني، تحت قيادة رجال الدين، بحقائق هذا التفوق وهو بالتالي محاولة للتوفيق، من وجهة نظر النظام، بين المكاسب الجيوبوليتيكية التي حققها وبين السعي لإنقاذ اقتصاد هو أكثر من اقتصاد: هو تطلّع عشرات ملايين الشباب والنساء في المدن الإيرانية المزدحمة للعثور على مكان في عالم متقدم دون التخلي عن المشروع القومي للدولة – الأمة الإيرانية.
لقد “استسلم” المشروع النووي الإيراني أمام الغرب مقابل تحدّي البقاء السياسي القوي على قيد الحياة في القرن الواحد والعشرين.
لم تفهم الترامبية ولا اليمين الإسرائيلي وربما لا يريدان أن يفهما، هذا البعد “الاستسلامي” الحضاري لدولة إقليمية في ذروة نجاحها الجيوبوليتيكي. كان الذين يفاوضون في فيينا من الجهة الإيرانية خيرة من كوادر وعلماء إيران في لحظة يعي النظام الديني مأزقه:
خطابه بات متخلفا على مستوى “الرسالة” الثقافية التي يحملها. بل التي استنفدت نفسها.
ماذا “يُخبِر” هذا الخطاب لنخب مجتمع تريد التقدم وتملك الإرث الثقافي الهائل بما فيه إرث عريق من التجديد الديني داخل الإسلام في عصور الإسلام الأولى؟
لا شيء تجديديٌ ثقافياً اليوم. هذا كله الآن يمسكه الخطاب الحالي للنظام كما يمسك السجان بأغلال سجينه. خطاب أيديولوجي هو مزيج من ثقافة بقايا معارضة الامبريالية الغربية ورجعية دينية لا إمكان لها لتأسيس نظام اقتصادي خاص بها ولكنها نجحت في تأسيس إمبريالية إقليمية فرعية تعيد التشكيل السياسي للشرق الأوسط.
يجب أن نراجع عشرات كتب الانشقاق الشبابي لنساء ورجال إيرانيين خرجوا، لا من سجون النظام فحسب، بل من إيران نفسها وبشكل متتابع. سأدع جانبا الكلام الترويجي المعادي ولكني أتحدث عن كتب سير ذاتية هائلة الحساسية والقوة والسلاسة لتجارب حياتية صعبة.
ما يعانيه الخطاب الثقافي الجامد والمتكرر للنظام الديني الإيراني هو عدم قدرته على مخاطبة الطموح التحرري الفردي والإبداعي العميق لهذه النخب. إنه اليوم يعاني عكس الظاهرة التي عاناها النظام الشاهنشاهي: الشاه بالَغَ في إهمال البعد الديني للمجتمع.. فسقط. النظام الديني الحالي ولا سيما بمحافظيه المحافظين وحتى بإصلاحييه (المحافظين فعلياً) بالَغَ بإهمال المكوّن غير الديني طويلا ويحاول السعي، ولو في البداية دون ترويج ثقافي، لتدارك خطر انفجار هذا المكوّن الذي بات ينفجر بين الوقت والآخر (ثورة 2009 التي سبقت “الربيع العربي” واحتجاجات نهاية العام 2016).
لم يكن الكلام المنسوب للرئيس حسن روحاني عاديا حين تحدث في أوائل هذا الشهر عن أن “سبب انهيار النظام الملكي في إيران هو عدم سماع صوت نقد الشعب” واعتُبِر ذلك تحذيرا ضمنيا للنظام في أعلى قمّته.
لم أسمع مصطلح “اغتصاب ثقافي” إلا في أحاديث مع مثقفين داخل إيران وخارجها. بمن فيهم مثقفون موالون. تختلف المضامين التي يعبّر عنها هذا المصطلح، لكننا أمام مجتمعٍ ذي دولة – أمة متماسكة وجاهزة إنما تلبسه فكرة “الاغتصاب الثقافي”، بينما العرب، وهم في أسوأ أيامهم السياسية والاقتصادية والانقسامية، ليسوا مسكونين بهذه الظاهرة، لأن لديهم، أي العرب، عن صواب أو عن خطأ، إحساسا متينا بثقافتهم الدينية المؤسّسة والمستمرة. قد يكون وعيُ العرب جامداً على نصِّهم الديني القوي وغير المهدَّد وهذا يعطي إحساسا زائفا بالقدرة على المواجهة، بينما لدى النخب الإيرانية يتلازم الشعور بالاغتراب مع المراجعة الجذرية للمفاهيم.
الخيار الغربي اليوم ومنذ عقدين للآن، هو خيار النخب الشبابية الإيرانية بما يزيد التباعد عن النظام، وهي هوّة يعي الدهاة المخططون في السلطة في طهران أنها يمكن أن تتسع بشكل أخطر إذا لم يقطف التسوية مع الغرب بالقدر الجاد من الكرامة الوطنية.
يلعب النظام بنجاح عالٍ منذ عقدين أيضاً على الاستقطاب داخله بين محافظين وإصلاحيين. هذا الاستقطاب بين محافظين وإصلاحيين يبدو وقد استنفد دوره الاستيعابي وما تحتاجه إيران خطاب ذو مصداقية ديموقراطية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية يخرج عن الكليشيهات المستهلكة فعلاً.
كثيرون في المنطقة من ذوي الحس السليم يتمنون أن يبقى الاتفاق النووي قائما لأن تهديد هذا الاتفاق سيقطع الهواء عن تطور خطاب ثقافي جديد يتلاءم مع مشروع مستقبلي حداثي يهدر بحثا عنه وينبض فيه عشرات ملايين الشباب والشابات الإيرانيين، الذين يريد حتما عشرات ملايين الشباب العرب والأتراك أن يلاقوهم بعيدا عن الاستنفار المذهبي وحروبه ونكباته وحتى لا تصبح عواصم ومدن الغرب الأميركية والأوروبية والأسترالية وحدها أمكنة اللقاء الخلاق السلمي بينهم أي بين “دياسبوراتهم”.