نحن جميعا، دولةً وشعباً، احزاباً ومجتمعاً مدنياً، عمالاً وأصحاب عمل، ننتظر "ماكنزي"، تماما كما كان المشردان ينتظران غودو في مسرحية صمويل بيكيت.
godot، كلمة فرنسية مركبة من God الانكليزية، وهي لغة بيكيت الاصلية، لكنه أحب أن يكتب مسرحيته بالفرنسية فاضاف اليها تحببا ot.
غودو شخصية كان ينتظرها المشردان، على أمل أحداث تغيير في حياتهما، وعلى أمل إنقاذهما من البؤس الذي كانا فيه.
وفي انتظار غودو، الذي لم يأت في نهاية المطاف، تتواصل أحداث المسرحية بتقطع وعشوائية ومن دون ترابط ظاهري، كما هي الحال في هذا النوع من المسرح الذي سُمِّي بـ"المسرح العبثي". ويُرجع البعض نشأة التيار العبثي، في الفن او في الفلسفة، إلى الصدمة التي احدثتها الحرب العالمية الأولى، و"سقوط الانسانية" بنتيجتها.
اما "ماكنزي" الذي ننتظره نحن في لبنان، فهو اسم الشركة التي كلفتها وزارة الاقتصاد، بتفويض من مجلس الوزراء، اعداد خطة اقتصادية للدولة خلال ستة اشهر، ببدل اتعاب قيمته مليون وثلاثمئة الف دولار اميركي.
لقد انتقد البعض الكلفة العالية، ولا سيما ان الوزير نفسه اعتبر أن "ماكنزي" ستعتمد على دراسة سابقة أنجزتها شركة "بوز اند كومباني" سنة 2010 ولم يجر الاستفادة منها، كما ان في حوزة الدولة دراسات عديدة، أجنبية ومحلية، منها خطة "نهوض لبنان" التي وضعها خبراء لبنانيون سنة 2007 بطلب من المجلس الاقتصادي والاجتماعي.
كذلك شكك البعض في حسن اختيار الشركة، حيث ان اسمها ارتبط بإفلاس مؤسسات طبّقت نصائحها الاستشارية.
كما تساءل آخرون عن سبب تسليم الدراسة الى شركة اجنبية وليس إلى شركة لبنانية، في ظل توفر الخبرات اللازمة في لبنان.
لعل الخلفية الفكرية لهذا الخيار تتوضح على لسان وزير الاقتصاد الذي عزا اللجوء الى شركة اجنبية، الى انها "جهة محايدة وليست طرفا سياسيا داخليا، فضلا عن صدقيتها تجاه الجهات المانحة".
يرتكز تصريح الوزير على ثلاث مسلمات: اولا ان الشركات الاستشارية الاجنبية محايدة؛ ثانيا ان الداخل اللبناني بتناقضاته عاجز عن إنتاج خطة اقتصادية للبلد؛ ثالثا ان الاعتماد في المعالجات هو على الجهات المانحة.
المسلّمات الثلاث تعكس ثقة بالخارج وعدم ثقة بالداخل. وتتضح اهمية المشكلة وخطورتها ان الوزير نفسه أفاد ان مهمة "ماكنزي" الاساسية هي "تحديد الهوية الاقتصادية التي نريدها للبنان".
من هذا المنظور، يصبح "ماكنزي" شبيها بغودو، في "خارجيته" والثقة المطلقة المعطاة له في تدبير أمورنا. ونصبح نحن اللبنانيين اشبه بالمشردين في مسرحية بيكيت، من حيث افتقارنا إلى مرجعية تحدد موقعنا، ومن حيث استسلامنا الكامل لما يمكن ان يحمله إلينا الآخر الغريب، بما فيه تحديده لـ"هويتنا الاقتصادية".
"في انتظار ماكنزي" اذاً، الجميع يلتزم ما يشبه الصمت في عتمة المسرح، مع بعض الهمسات والتعليقات من هنا وهناك.
الجميع مستقيل من المسؤولية: النقابات، أصحاب العمل، النواب، الاحزاب، المجتمع المدني، المرشحون والناخبون في الانتخابات المقبلة.
"في انتظار ماكنزي"، اللامبالاة السياسية حيال القضايا الاجتماعية مستمرة، والمشكلات من تأجيل إلى آخر وبعبثية مقززة، تعكس ما يلامس "سقوط الانسانية": الاقساط المدرسية، السلسلة، تصحيح الاجور، تعديل قانون العمل، اصلاح الضمان الاجتماعي، التغطية الصحية الشاملة، قانون الشيخوخة، السكن، التلوث، النفايات، الكهرباء، وغيرها. ذلك كلّه، في حين تشير الدراسات الحديثة إلى ان لبنان هو من ضمن الدول التي تسجل أعلى مستويات التفاوت في الدخل وانعدام المساواة بين المواطنين.
"في انتظار ماكنزي" ايضا، تتزايد التحذيرات الجدية، المحلية والدولية، من انهيار مالي ونقدي في ظل استمرار العجز في الموازنة بفعل الفساد والهدر والإنفاق الزبائني، والسياسة الضرائبية غير العادلة، وهيمنة القطاع الريعي والأهمال المتمادي للقطاعات المنتجة.
"في انتظار ماكنزي" ايضا وايضا، سيعقد "باريس 4" او "سيدر1"، من دون تنسيق بين الاثنين، ومن دون رؤية اقتصادية اجتماعية لكمٍّ هائل من المشاريع المبعثرة.
على عكس غودو، سيأتي "ماكنزي" ويحمل معه وصفته، لكنها لن تتناسب على الارجح، مع تطلعات المعنيين بتطبيقها.
فلا خطة اقتصادية قابلة للتطبيق، إن لم تكن نتيجة لحوار اجتماعي حقيقي بين الأطراف الثلاثة، الدولة والعمال وأصحاب العمل.
خطة تأخذ في الاعتبار مصالح الأطراف الثلاثة، ورؤيتهم المستقبلية واستعداداتهم للمساهمة في تنفيذ الخطة.
خطة يساهم فيها الخبراء والاستشاريون، المحليون والاجانب، لكن ليس بصفة مستقلة، بل كجزء لا يتجزأ من الأطراف الثلاثة المتحاورين، وكسند فني لهم.
"في انتظار ماكنزي"، هل يخرج "الشركاء الاجتماعيون" عن صمتهم، ويتوقفون عن الانتظار المشين، ليقفوا في وجه العبث بمصيرهم، ويعيدوا القضية الى النقاش في مكانها الصحيح، اي الى أطر الحوار الاجتماعي، وأهمها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، الذي جرى احياؤه حديثا؟