منذ تشرين الأول 2012 حتى الـ 2015 استمرّ فريدرك هوف يتابع ملف غاز لبنان وإسرائيل، بصفته الملفّ الوحيد الذي كلّفته إدارة باراك أوباما والخارجية الأميركية تفريغَ كل وقته له
 

يقول هوف: «المرّة الأولى التي قدمت استقالتي من كل وظائفي الرسمية لأسباب شخصية كانت عام 2012، ولكنّ الخارجية الأميركية طلبت مني بإلحاح العودة عن الإستقالة نظراً لوجود حاجة ماسّة لخبرتي، ونظراً الى أهمية ملف الغاز اللبناني لواشنطن، ونظراً الى ضرورة التحرك سريعاً لإنجازه.

وقال هوف في محادثة ديبلوماسية خاصة، ما حرفيّته إنه كان مكلّفاً قبل استقالته ثلاث ملفات، ولكنه خلال الفترة من 2013 حتى 2015 موعد خلافة هوكشتاين له، ظلّ يتفرّغ لملف واحد هو الغاز اللبناني.

حدّد هوف خلال تلك الفترة المبادئ التي يجب توفيرُها لنجاح مهمته في شأن انجاز ملف الغاز بين لبنان وإسرائيل، وهي الآتية:

ـ المبدأ الأول لهوف يفيد أنّ «الاستقرار ضروريٌّ جداً، من أجل أن توافق شركاتُ التنقيب العالمية على البدء بعملها في مياه لبنان».

في موازاة مبدأ هوف هذا، أجرت الأركان الإسرائيلية تعديلاً اساسياً في إستراتيجيتها العسكرية في الجبهة الشمالية، وأدرجته نقطةً للبحث ضمن حوارها العسكري الاستراتيجي مع واشنطن. وبموجب هذا التعديل أصبحت لإسرائيل مهمتان قتاليتان في الشمال: الأولى «أمن الجليل»، والثانية المستجدّة هي «أمن الغاز». وكلتا المهمتين الإستراتيجيتين تواجهان تحدّياً واحداً هو «صواريخ حزب الله البالستية وضمنها صواريخ أرض ـ بحر المهدِّدة للمنشآت النفطية الإسرائيلية على طول ساحلها.

المبدأ الثاني الذي حدّده هوف يفيد أنه «في حال وافق لبنان على مقترحه فإنه يضمن موافقة الأطراف الآخرين (قبرص وإسرائيل والمستثمرين)».

انقطع مسعى هوف نتيجة اضطراره الى الإستقالة، من دون التوصّل الى حلول لأزمة الغاز اللبنانية ـ الإسرائيلية، ولكنه ترك في أثره جملة إقتراحات يبني خَلفه عليها في هذه المهمة.

في أيار عام 2016 عيّنت إدارة أوباما أموس هوكشتاين لهذه المهمة، وبدأ عمله من حيث انتهى هوف، ولكنه ركّز خصوصاً على مقترح «مبدأ التوحيد» الذي يتوافر له امتيازٌ أساسي قوامه أنه يحظى «بتشجيع»، بل و»تفضيل» شركات الغاز الدولية الكبرى (وبينها شركة «إكسون موبيل» التي ظلّ ريكس تيلرسون يترأس مجلسها النفيذي حتى 2016).

فهذه الشركات تعتبر أنّ «مبدأ التوحيد» هو «أقصر طريق للحلّ»، ولكن في المقابل تعترف بأنّ هذا الحلّ يطرح مشكلة سياسية، كونه ينتقص من سيادة القرار الوطني للدول وأيضاً لكونه يستثني لاعبين إقليميّين مهمّين مثل إيران وتركيا.

يعني «مبدأ التوحيد» أنّ الشركات تنقّب وتستخرج الغاز وتبيعه، وتعطي الدول حصتها من مردوده بحسب نسبه في الحقول المتنازَع عليها. وهذا «الحلّ هو بطبيعته تحكيمي وتقني»، ويؤدّي الى تنازل دول غاز المشرق عن سيادتها في حقول غازها لمُحكِّمين تقنيّين تقبل بحُكمهم سلفاً، ولذلك يصعب توقّع قبول لبنان به بسهولة لأنه قد يواجه معارضة داخلية، وحتى إقليمية، وايضاً يصعب قبول كل من قبرص وإسرائيل به لأنه قد يواجه فيهما معارضةً سياسيةً داخلية.

ولكن يمكن توقّع نجاح هذا الحلّ، أقلّه لجهة الحصول على موافقة لبنانية عليه، في حال نجحت واشنطن في ممارسة ضغط سياسي قوي على بيروت. ويجدر التذكير هنا أنّ المبدأ الثاني الذي حدّده هوف لنجاح مهمته، اعتبر أنّ لبنان إذا وافق أولاً على المقترح الأميركي، فإنّ واشنطن تضمن حصولها على موافقة الأطراف الأخرى.

والواقع أنه في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب، تبدو حظوظُ إمرار مقترَح هوكشتاين الذي يدعو الى دفع كل دول المشرق المتشاركة في حقول الغاز الى اتّخاذ قرارٍ سياسيّ بقبول مبدأ التحكيم، أكبر، نظراً للتوقّع الذي يرى أنّ تيلرسون من موقعه كوزير للخارجية وكشخصية لها حضورها في بيئات شركات النفط الكبرى، يمتاز بأنّ لديه إرادة توجيه ضغوط سياسية لإمرار مبدأ التحكيم أو مبدأ التوحيد هدفاً تريده الولايات المتحدة الأميركية في نهاية المطاف.

وتفيد المعلومات أنّ خريطة طريق تيلرسون لحلّ أزمة الغاز اللبنانية يمكن تلخيصُها بالعناصر الآتية:

أ - إعتماد خط هوف، كونه يحدّد النسب لكل من إسرائيل ولبنان في عملية «التوحيد». بمعنى أنّ مبادرة تيلرسون ـ ساترفيلد التي حملاها أخيراً الى بيروت، يعتمد جوهرُها كخطوة أولى، الحصول من لبنان على قرار سياسي بالتراجع عن رفضه خطّ هوف. وتجدر الاشارة الى أنّ ساترفيلد يُعتبر من أبرز خبراء فريق تيلرسون في قضايا الشرق الأوسط، وهو يرافقه في كل رحلاته الى المنطقة، وكان ساترفيلد أبلغ الى لبنان ضرورة العودة الى خطّ هوف والتفاوض على أساسه.

ب - آلية التفاوض التي تريدها واشنطن لأزمة الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل هي تقنية، ولذلك فإنّ المطروح إجراء تفاوض بواسطة اللجنة الثلاثية في الناقورة التي تضمّ ممثلين عن قوات «اليونيفيل» ولبنان وإسرائيل، تطعَّم بخبراء من الطرفين، وتوسَّع لتضمّ ممثلين عن أميركا.

ج - مبدأ التوحيد يؤدّي في نهاية المطاف الى نشوء حالة سلم اقتصادي بارد وغير مباشر بين إسرائيل ولبنان، وسيجعل اللاعبين الإقليميين بعيدين من حصص نفوذهم في غاز مياه المتوسط. وهاتان هما أبرز عقبتين قد تواجهان مسعى تيلرسون ـ ساترفيلد خلال الفترة المقبلة. اضف الى أنّ إسرائيل ولبنان، مضطرّان الى حلّ نزاعهما على منطقة الـ 850 كليومتراً مربعاً، لأنّ أيّاً من الطرفين يستطيع بموجب القانون الدولي رفع دعوى ضدّ أيّ شركة تقوم بأعمال التنقيب في منطقة متنازَع عليها، وذلك في أيِّ دولة في العالم، ما يُسفر عن ملاحقة قانونية للشركة في الدولة المقدَّمة الدعوة فيها ضدها.

د - يترتّب على نجاح واشنطن في وضع نزاع الغاز الإسرائيلي ـ اللبناني على سكّة حلّ «خطّ هوف» (أي تجميد الخلاف واستمرار التنقيب في حقول لا خلاف عليها) ومن ثمّ على خطّ «مبدأ التوحيد ـ هوكشتاين» (أي منح شركات النفط حقّ التنقيب والاستخراج والبيع مقابل نسب لبنان وإسرائيل) تمهيداً لإبرام نوع من الشراكة الاقتصادية الباردة أو غير المباشرة بين بيروت وتل أبيب.

ويترتّب على ذلك تعميم هذا الحلّ الأميركي على بقية حقول الغاز في المنطقة التي تشهد نزاعاً حولها مشابِهاً لما يحصل بين لبنان وإسرائيل، خصوصاً بين مصر وتركيا، وبين قبرص اليونانية وجمهورية قبرص.

وبمعنى آخر يؤدّي حلُّ «التوحيد» لمشكلات ترسيم الحدود البحرية لدول الغاز في المنطقة الى تطبيق فكرة يريدها تليرسون وهو تجميع غاز المتوسط في منظومة تجارية واحدة تقودها شركات الغاز الكبرى.