نفضت خصال الذّهب المنسدلة على وجنتيها كالشلالات، ونظرت إلى القاضي بعيني نَمرملؤهما التّحدي، وأردفت بهدوء: "أزل تلك الأسلاك الحديدية من يدي لأريك كيف صفعت ذاك الظابط في قواتكم الغاصبة المحتلة".
قوية كانت كالحق، شامخة شموخ جبالٍ تصل الى عنان السماء، لم ترهبها محكمة الاحتلال الظالمة، ولم يخفف الاعتقال من عزيمتها الفولاذية المستمدة من عنفوانها الثوري والوطني،
صلبة كانت صلابة الصخر، صادقة صدق قضيتها "فلسطين"، وبريئة براءة الاطفال اليافعين...
أحاطوها من كلّ جانب، كي لا نرى نشوة الانتصارعلى شفتيها، ولكنهم أخفقوا، خسئوا...
هزمتهم حتى بالابتسامة، وأثبتت لهم بأنها طفولة مثمرة قادرة على مواصلة درب نضال عجز عن سلوكه سوى كبار النفوس.
فتحت فلسطين عينيها في صبيحة الثامن والعشرين من أيلول عام 2000 على غليان شعبي إثر إقتحام استفزازي نفذه زعيم المعارضة الإسرائلية "أرييل شارون" لباحات المسجد الأقصى بموافقة ومباركة رئيس الوزراء "إيهود باراك" وحماية نحو ألفين من الجنود والقوات الخاصة للاحتلال.
ثار الشعب على مسار اتفاقية أوسلو واستمرار بناء المستوطنات، واستبعاد عودة اللاجئين والانسحاب إلى حدود حزيران 1967، واندلعت المواجهات بين المصلين والجنود الصهاينة في ساحات المسجد الأقصى، فسقط العديد من الشهداء والجرحى.
إندلعت إنتفاضة الأقصى وكتب إعلام العالمفي تلك المواجهة أبشع مظاهر الظلم، وأقسى الممارسات التي أرتكبت بحق الشعب الفلسطيني، ممارسات بعيدة كل البعد عن الإنسانية.
التقطت صور هزت العالم ووجدانه وكل ذي كرامة في هذه الأمة، أتى ابرزها صورة تُخلع لها القلوب التقطها "شارل إندرلان" المراسل بقناة فرنسا 2 في قطاع غزة في 30 أيلول 2000 للطفل الفلسطيني محمد الدرّة الذي استشهد برصاص الاحتلال بين يدي والده الذي فوجئ بالاشتباك فاختبأ خلف برميل من الإسمنت منتظراً النجدة، فأتته نجدة من نوع آخر وهي رصاصتان أودت بحياة إبنه وجندلته شهيداً.
ستة أشهر كانت قد مرّت على إندلاع تلك الانتفاضة حين ولدت عهد.
فتحت هذه الأيقونة الشقراء عينيها على احتلال غاصب أحكم قبضته على قريتها النبي صالح غربي رام الله، ووطنها فلسطين، وعلى قصص اعتقال أقرانها واستشهادهم على مرّ التاريخ.
تعلمت خطواتها الأولى على درب المسيرات المناهضة للاستيطان برفقة أبويها وأبناء قريتها. عاشت طفولتها في الصفوف الأولى المواجهة للجنود الغاصبين.
سميت عهد، عهد فلسطين وورثة قلباً جسوراً من التاريخ النضالي لوالديها، الذي زرع فيها روح الشجاعة وصمود أشجار الزيتون، وصبر فلسطين. وكانت جلّ أحلامها حقوقاً في بلدان أخرى...
ترعرعت عهد في عائلة استثنائية باتت اليوم رمزاً من رموز الثورة.
فوالدها كان من المشاركين في ثورة 1988 ضد العدو، حيث اعتقل لأول مرة، وعاد ليعتقل عشر مرات بعد ذلك، كادت إحداها في عام 1993 تودي بحياته حيث أخضع لعملية الهز أثناء التحقيق سببت له شللاً نصفياً في قدمه.
ووالدتها مناضلة فلسطنية، لا عجب من قيامها بتشجيع اليافعين من إناث وذكور بأن يستعملوا ما يوثق الأحداث بإلتقاط الصور وبث مقاطع من التصوير الحي لكل ارتكابات العدو الصهيوني الغاصب اللّاإنسانية كي تبقى "النبي صالح" شوكة في فم المحتل الغاشم. وقد تعرضت للإعتقال خمس مرات وأهينت وعنفت أمام عيني أولادها أكثر من مرة من قبل الجنود الإسرائيليين.
عهد لم تخف ولم تهدأ نيران ثورتها رغم يقينها أن هذه المسرحية الصهيونية التي تسمى محكمة، ظالمة مجرمة، ففي ظروف مشابهة وأمام أعين قضاتها قتلت عمة عهد على يد جندي إسرائيلي أثناء حضورها محاكمة ولدها في العام 1993.
كما استشهد عمها وخالها في سبيل الحق...
هذه الأيقونة الفلسطنية كانت اليد اليمنى لمنجبتها، ساعدتها في توثيق ما يحصل من انتهاكات من قبل العدو، وكانت قيدوم مظاهرات النبي صالح والمشجعة لها.
لا ينسى ذلك النهار حين ضجت وسائل الاعلام بقوة فتاة الحادية عشرة، وحبها الفائض حين هزت الجندي المدجج بالسلاح من رأسه حتى أخمص قدميه وهي العزلاء تسأله عن أخيها وتقول بتلك اللكنة الفلسطنية المشرّفة: " وين وديتو" وحين أنطلقت الدبابة مع أخيها الصغير، تبعتها بسرعة أسد يلاحق فريسته دون جدوى.
لم تكن تلك هي الحادثة الوحيدة التي تثبت عهد فيها حرصها على الدفاع عن جانحها المكسور، وحدث ذلك عندما عمد جندي آخر على ضرب اخيها نفسه على يده المكسورة وإستضعافه ومحاولة قتله، فانقضت عليه بشراسة أم وعضته، فنجحت هي وأقرانها من تحرير الصبي من شره، ليقوم بعدها الجنود الجبناء برمي الاطفال بالقنابل المسيلة للدموع والسلاح المطاط.
ولدت من رحم المعاناة، نشأت وترعرعت على اصوات المدافع وصور إقتحامات واستشهادات واعتقالات كان آخرها اعتقالها في ساعة متأخرة من ليلة الثامن عشر من ديسمبر 2017 ليجاهر بعدها وزير الحرب في قوات الاحتلال بالقول: "من يعتدي على جنودنا نهاراً سيلاقي حتفه ليلاً"، وكأنما اعتقال إبنة الستة عشر عاما في الليل بطولة.
والمضحك المبكي في تلك القضية أن عهد اعتقلت وحوكمت لأنها حمت دارها وطردت خسّاس حاولوا انتهاك حرمة البيت وأطّرت لصفع أحد الجنود بعد قيامه بحركات استفزازية مهينة لعرضنا وقيمنا.
عهد صارت سيفاً مصلتاً على كل الانظمة العربية دون استثناء، وصفعتها تلك كانت بمثابة صاروخ قدر يخترق تحجر الأنظمة الخانعة عن القيام بواجباتها والتي تستبيحها إسرائيل، ونردد عن لسانها "شو بنّا ننطر صلاح الدين يجي يحرر أرضنا، لازم كل حدا منا يكون صلاح الدين، أنا بعرف أنو رح يجي يوم يعتقلوني فيه ويمكن موت فدى فلسطين بس هي الارض هويتنا وتاريخنا ومستقبلنا أكيد بتستحق".
فتاة الستة عشر عاماً لا تزال اليوم وراء قضبان الظلم، تتجدد مدة اعتقالها وتتجدد مع كل انعقاد محكمة، فأين أنتم يا عرب؟
(ريم حاطوم)