نعيش اليوم أزمة حول تحديد مفهوم الوطن، لا سيّما عند جيل الشباب. ولعلّ هذه الأزمة ناتجة من التّداعيات السّلبية في مختلف الصّعد التي يتعرّض لها لبنان اليوم، إن كان في الصّعيد الإقتصادي أو الأمني ولا سيّما السّياسي. فهل نستطيع بناء الوطن الذي نريد مع أجيال لا تدرك مفهومه؟ وهل يستحقّ لبنان، وطن الآباء والأجداد الذين دفعوا أبهظ الأثمان لقيامه، سوء التّقدير هذا من الجيل المعوَّل عليه لبناء المستقبل؟
بعد سلسلة الأزمات والنّكبات والنّكسات التي تعرّض لها لبنان، بدءًا بالحرب الأهليّة، وحتّى ما قبل نشوبها في العام 1969 حيث تمّ استباحة الحدود الجنوبيّة لصالح القضيّة العربيّة، وتحمّل حينها بلد ال 10452 كلم2 وزر مساحة الوطن الذي يبلغ 13 مليون كلم2، أعني الوطن العربي مجتمعًا، عانى لبنان من أزمة ثقة من بعض أبنائه سرعان ماتحوّلت مع مرّ السنين إلى السّواد الأكبر منهم.
ولهذه الغاية، لجأ اللبنانيّون إلى حلول بديلة بعد استنفاد الحلّ الأصيل الذي يكمن في إصلاح الوطن والدّفاع عنه ومكافحة الفساد فيه. فازدحمت أبواب السّفارات بحثًا عن جنسيّة تؤمّن ما يطمح إليه أيّ إنسان، وعن وطن يحترم الكرامة الإنسانيّة بشكل عام. صحيح أنّ هذا حلّ، لكنّه ليس الحلّ المثالي.
فالحلّ المثالي يجب ألّا يكون في البحث عن بدائل، بل العودة إلى الجذور التي على أساسها بني الوطن. ومن هذا المنطلق، نحن بحاجة إلى تحديد مفهوم الوطن. فهنا تكمن المشكلة. بالنّسبة إلى بعض النّاس، الوطن يشبه الدّكّان الذي يؤمّن الحاجات الخاصّة للإنسان. فعندما لا يجد هذا الإنسان حاجاته في هذا الدكّان يتوجّه إلى غيره لأنّ الهدف أن يؤمّن هذه الحاجات بغضّ النّظر عن اختلاف المصدر. من هنا بالضّبط، نفهم المنطلق الذي يُبنى على أساسه مفهوم الوطن.
لا يا سادة، الوطن ليس بدكّان. فإذا كان بخير ويؤمّن حاجات مواطنيه كلّهم عندها يقبلون به. ومتى قصّر هذا الوطن عن تأمين الحاجات، ولو حتّى البدهيّة والأساسيّة، تذهبون للبحث عن غيره ليؤمّن بديهيّاتكم. عندها يصبح دكّانًا وليس وطنًا. الوطن هو الذي نعطيه ونضحّي من أجله ونقبل به كيفما كان، بغضّ النّظر عن قصوره عن تأمين أدنى حاجاتنا، ولا نتركه ونبحث عن بديل عنه لأيّ سبب كان.
الوطن يا سادة متى احتاجنا يجب أن نلبّي نداءه. فهذا واجب من واجباتنا تجاهه. وليس أن نتخلّى عنه ونبحث عن بديل. فعندها سيصبح هذا الوطن لمن استحقّ شرف الدّفاع والمحافظة عليه. وإذا لم يتبقَّ أحد للدّفاع عمّا ورثه عن الآباء والأجداد فعندها يصبح هذا الوطن مستباحًا وملكًا شرعيًّا لمن قرّر أن يغزوه. وعندها لن ينفع البكاء ولا صرير الأسنان ولا دموع النّدم.
الوطن يا سادة ليس دكّانًا لنتركه ولنبحث عن غيره لتأمين حاجاتنا. ألم يقل غبطة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير :" أنظروا ما بإمكانكم أن تعطوا وطنكم وليس ما بإمكان وطنكم أن يعطيكم." فيجب ألّا ننتظر من الوطن أن يقدّم لنا الكماليّات لأنّه قدّم لنا الأساسيّات: الأرض والهويّة. فمن يرفض اليوم هذه الأرض وهذه الهويّة لا يستحقّ أساسًا شرف البقاء في هذا الوطن.
قد أكون مثاليًّا. ولكنّني أسلّط الضّوء على مبدأ قائم على أساسه أيّ وطن اليوم. فالكلّ مستعدّ للتّخلّي عنه لتأمين مصلحته الخاصّة. هذه ثقافتنا الوطنيّة للأسف، وهذا ما نحن بحاجة إلى تغييره قبل أن نسعى إلى تغيير الوطن وإصلاحه. فإذا لم نستطع إقناع الأجيال الصّاعدة اليوم بمفهوم الوطن، وبضرورة التّضحية لأجل بقائه واستمراره، فلا يحلمنَّ أحدٌ بعد بلبنان الجديد. وعندها هل سيصبح البحث عن البديل مشروعًا؟
(ميشال الشمّاعي)