يظهر من الأحداث التي مرّت في الأسابيع الماضية، أن للبلوك رقم 9 أبعادًا إستراتيجية وإقتصادية لم تظهر في الأعلام. هذه الأبعاد تُثبت أهميتها الزيارات العالية المُستوى لمسؤولين أميركين للبنان بهدف نزع فتيل الحرب وإيجاد حلول سلمية بين لبنان وإسرائيل.
المُطالبة في البدء بالتنقيب في البلوكات الجنوبية لم يأت من عدم، بل هي وليدة دراسة مُعمّقة لما تحويه هذه البلوكات من كميات غاز هائلة. فالمنطقة التي تُحيط بالمنطقة المُتنازع عليها والتي تبلغ مساحتها التقريبية 2300 كم2 (الخطّ الأحمر المُتقطّع على الرسم) تحوي بحسب التقديرات الأولية ما يزيد عن 340 مليار متر مُكعّب من الغاز من أصل ثروة إجمالية توازي 12 تريليون متر مُكعّب من الثروة الغازية الموجودة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المُتوسطّ.
أهمية البلوك رقم 9
الطبقات الجيولوجية في هذه المُنطقة متشابكة بطريقة يسهل تأهيل الآبار من جهة كما من الجهة الأخرى وبالتالي، فإن الذي يسبق في عملية التنقيب والتأهيل، سيتمكّن من حصد الكميّة الأكبر من الغاز. من هنا تأتي مخاوف إسرائيل التي لم تستطع حتى الساعة البدء بالتنقيب عن الغاز في حقل كارديش المُحاذي للبلوك رقم 9 وذلك بسبب نقص الإستثمارات حيث أن الشركتين الأساسيتين نوبل إينرجي الأميركية وديليك الإسرائيلية إستثمرتا حتى الساعة ثلاثة مليارات دولار أميركي وهو رقم غير كافٍ ولا يُلبّي تطلّعات الدولة العبرية.
هذه الإستثمارات تطال حقول تمار وليفياتان لذا من الضروري لإسرائيل الإسراع في إيجاد شركة تقوم بالإستثمار في حقل كارديش. وبالتالي، وبإنتظار حصول هذا الأمر، كان من الضروري لإسرائيل خلق مُشكلة مع لبنان لمنع الشركات النفطية من البدء بالتنقيب عن الغاز في الجانب اللبناني.
البلوك رقم 9 يأخذ أهميته من منطلق أن تجانسُ الحوض الشرقي للمتوسط يقترح وجوداً عالياً من الهيدروكربون في الجانب القريب من اليابسة وبالتالي من المُحتمل أن يكون البلوك رقم 9 يحوي على الكمية الأكبر من الغاز الطبيعي في المنطقة الآنفة الذكر. لذا فإن السيطرة على هذا البلوك تُعطي لمالكه بعدًا إستراتيجيًا في قلب بحر الغاز.
من هنا يُمكن الإستنتاج أن تصريح ليبرمان الشهير في ما يخصّ البلوك رقم 9 وملكية العدو الإسرائيلي له مؤشرّ على مُشكلة تُعانيها إسرائيل. هذه المُشكلة تتمثّل بعدّة أبعاد إقتصادية، سياسية، وإستراتيجية.
مُشكلة الحدود وإقتراح هوف
في العام 2007، قام لبنان وقبرص بتوقيع معاهدة لم تر النور (لم يُصدّق عليها المجلس النيابي اللبناني). وتُحدّد هذه المُعاهدة بعض نقاط الخطّ الفاصل بين المنّطقة الإقتصادية الخالصة التابعة للبنان وتلك التابعة لقبرص. ولم يتمّ ترسيم كلّ الحدود بين البلدين بدافع إنتظار ما سيُعطيه ترسيم الحدود بين إسرائيل وقبرص من جهة وسوريا وقبرص من جهة أخرى لتحديد النقاط الحدودية المُشتركة مع البلدان الثلاثة (لبنان - قبرص - إسرائيل ولبنان - قبرص - سوريا).
وإستفاد العدو الإسرائيلي من هذه الثغرة وقام بترسيم حدود منطقته الإقتصادية الخالصة على النقطة التي توقّف عندها الإتفاق القبرصي اللبناني. بالطبع هذا الأمر لا يُعطي إسرائيل الحق في المنطقة التي تدّعي إمتلاكها والبالغة 860 كم2 بحكم أن ترسيمات الجيش اللبناني والتي تمّ رفعها إلى الأمم المُتحدّة تثبت ملكية لبنان لهذه المنطقة.
ومما يُعقدّ الخلاف بين لبنان وإسرائيل عدم توقيع هذه الأخيرة على قانون البحار والذي كان ليسمح للبنان باللجوء إلى المحكمة الدولية المعنية بفض الخلافات الحدودية البحرية.
وتدخّلت الولايات المُتحدّة الأميركية على خط الوساطة بين لبنان وإسرائيل حيث قام الموفد الأميركي فرديريك هوف (2012-2013) بإقتراح تقسيم المنطقة المُتنازع عليها إلى قسمين: ثلثين للبنان وثلث لإسرائيل وذلك بشكّل مؤقّت يسمح للبنان بحفظ حقّه وبالتالي يتمّ تعليق النزاع لحين توفّر إطار تفاوضي مؤاتٍ أفضلّ من الإطار الحالي.
إقتراح هوف لم تتمّ الموافقة عليه رسميًا من قبل لبنان وبالتالي بقيت الأمور مُعلّقة إلى حين إعلان لبنان في العام 2017 تلزيم التنقيب عن النفط في البلوكين 4 و9 إلى كونسورتيوم الشركات الثلاث (آني، توتال ونوفاتك).
ما بعد زيارة تيلرسون
تعتبر زيارة تيليرسون إلى لبنان مؤشرا إيجابيا عن الرغبة الأميركية بتفادي أي صراع عسكري بين لبنان وإسرائيل وهذا الأمر له انعكاسات إيجابية على الإقتصاد اللبناني. إلا أن الأمور تبقى مُعلّقة على نجاح مُهمّة وزير الخارجية الأميركية في إقناع لبنان وإسرائيل بالقبول بخطّة هوف والظاهر أن تيليرسون يستخدمّ إستراتيجية العصى والجزرة مع الطرفين اللبناني والإسرائيلي.
من هنا يظهر إحتمالان:
أولًا – نجاح تيليرسون في مُهمّته وبالتالي فإن الجانب اللبناني سيُباشر التنقيب عن الغاز على ألا يشمّل التنقيب الثلث الأسفل من المنطقة المُتنازع عليها مع ضمانة أميركية بعدم تعرّض العدو الإسرائيلي للمنشأت النفطية التابعة للشركات النفطية المولجة التنقيب عن الغاز في الجانب اللبناني (آني، توتال ونوفاتك). وفي الوقت نفسه ستقوم الولايات المُتحدة الأميركية بزيادة الدعم للجيش اللبناني ومعه ستزيد من إستثماراتها في الإقتصاد اللبناني.
ثانيًا – فشل تيليرسون في مهمّته وبالتالي سيكون هناك إستحالة على الشركات النفطية البدء بالتنقيب عن الغاز في الجانب اللبناني. وسيفتح هذا السيناريو الباب أمام مواجهات عسكرية مُحتملة بين لبنان وإسرائيل على الجبهتين البرّية والبحّرية.
أهداف سياسية
يبقى لبنان الجبهّة التي تعصى على إسرائيل إن سياسيًا أو عسكريًا مع خلق معادلة جديدة ترعى ميزان القوى بين لبنان وإسرائيل وتوحيد الصف الداخلي اللبناني بين الرؤساء الثلاث. لذا يأتي التصعيد الإسرائيلي ليخدمّ هدفين تطمح بتحقيقهما الدولة العبرية: الأول ينصّ على الدخول في مفاوضات مباشرة مع لبنان وهذا ما رفضه لبنان وما زال. والثاني لجم حزب الله عسكريًا من خلال الضغط على الحكومة اللبنانية لحصر السلاح بيد الدولة.
ولا يُمكن لها تحقيق هذين الهدفين إلا بمساعدة أميركية من خلال دبلوماسية هذه الأخيرة المعروفة بفعّاليتها، فهل تنجح هذه الأخيرة؟ الجواب على هذا السؤال ليس بالسهل لكن الأكيد أن نَفَسَ الدبلوماسية الأميركية يتخطى العهود ويستمرّ مع إستمرار الإدارة الأميركية التي تؤمّن نظرة إستراتيجية واحدة مهما تغيّر لون الرئيس الأميركي.
يبقى القول أنه وفي ظل هذا التوتر بين لبنان وإسرائيل، هناك نقطتان إيجابيتان تتمثلان بدعم الجيش اللبناني من قبل الولايات المُتحدة الأميركية وإنخراط الدبوماسية الأميركية على أعلى المستويات في حل الخلاف اللبناني – الإسرائيلي.