بدو أن لا “باريس 4” ولا من يحزنون. فلقد اتفق المجتمع الدولي أخيراً على: “أننا بلغنا من الفساد مستوى غير مسبوق”!!
المهزلة تكمن في أن مسؤولينا!! أول من يشكو منه.
قد يقول قائل ان الفساد موجود في كل المجتمعات، وهذا صحيح، فالفساد المتعلق باستغلال السلطة والمنصب سواء للإثراء غير المشروع او توزيع المكاسب والمناصب على الأقارب والمحسوبيات من نوازع البشر الملازمة لطبيعتهم.
لكن هناك فارقاً كبيراً بين جمهورية ديمقراطية تتمتع بحرية التعبير، وبرأي عام قادر على إلزام المسؤولين بالتراجع عن بعض انواع الفساد المفضوح، وبين لبنان الجمهورية التي تتمتع بحرية التعبير (بالرغم عن انف من يحاول قمعها وإخراس الألسن). ولكن الرأي العام فيها عاجز تماماً عن المحاسبة على فضائح الفساد التي صارت تصاغ بقرارات حكومية وتقونن أحياناً.
فالرأي العام أقوى في مجتمع ديموقراطي ومتعدد، عما هو عليه في مجتمع منغلق او استبدادي او منقسم على نفسه كلبنان.
ونذكّر هنا بإلزام الرأي العام الفرنسي أحد الرؤساء بالتراجع عن توظيف ابنه على رأس مؤسسة عامة، ناهيك عن العقد- الهدية الذي تلقته رئيسة وزراء بريطانيا تاتشر وقيل لها انه ملك الخزنة، أو حلاقة كلينتون ومحاسبته على تعطيله للطائرة الرئاسية محملاً الأكلاف للخزينة؛ ناهيك عن رؤساء حكومة استقالوا لاتهامهم بالفساد. والأمثلة لا تحصى.
هذا في وقت تتحمل فيه الخزينة اللبنانية اكلاف الفساد العلنية بالمليارات. وأبسط الأمثلة تحمل الدولة أكلاف هدر أسفار المسؤولين السندبادية التي لا تتوقف وعلى متن طائرات خاصة تنقلهم وتنتظر عودتهم الميمونة محملة المكلف اللبناني ملايين الدولارات في بلد مهدد بالإفلاس.
هذا هو الفارق الموجود بين الجمهوريات “الحقيقية”، وبين أشباه الجمهوريات في عالمنا الثالث.
أين تكمن المشكلة؟
تكمن في أن الرأي العام أقوى في مجتمع حر، منفتح ومتقدم، عما هو عليه في مجتمع منغلق او استبدادي او منقسم على نفسه كلبنان.
فصحيح أن حرية الرأي والتعبير مضمونان في الدستور، لكن ذلك لا يكفي ولا يشكل ضمانة لحسن سير الديموقراطية. فلكي يلعب الرأي العام دوره المفترض في الرقابة الضرورية لحسن سير الديموقراطية ينبغي ان يتمكن من محاسبة المسؤولين في صناديق الاقتراع. وهنا نجد ان صلة الوصل مفقودة بين المواطن وممثليه. اللبناني لم يجد بعد الوسيلة التي تمكنه من محاسبة نوابه في صناديق الاقتراع.
لأن هذا المواطن لا يتصرف دائما كفرد وكجزء من رأي عام. هذا سلوك مخصص للمناسبات المطلبية. اما في مناسبات الانتخابات فهو يعود عضواً في جماعة. وهذا ليس بفعل إرادي حر منه، بل لأن القوانين والسياسات المتبعة من المسؤولين تجبره على ذلك. كيف؟
من جهة نجد سياسة التفقير الممنهجة المتبعة عبر فرض الضرائب المرئية وغير المرئية على الجميع سواسية، ما يعني ان الاثرياء يدفعون نفس نسبة الفقراء وليس بحسب أرباحهم الطائلة. تترافق مع جعل الحقوق خدمات طائفية وعائلية: (من مدرسة وطبابة وخدمات على انواعها من علاقة مع الشرطة او الرعاية وغيرها). فكل ما يجب ان تؤمنه مؤسسات الدولة وقوانينها كحقوق مكتسبة وعبر الاجهزة القضائية المختصة او المؤسسات تلزم المواطن للحصول عليها باللجوء الى النائب او الجهة النافذة كي يحصل على تلك الحقوق كخدمات عبر الوسيط الذي يلعب دور السمسار. فبدل تحسين مستوى المدرسة الرسمية المجانية تهدر الملايين على المدارس الخاصة (التابعة في غالبيتها للطوائف او للمستزلمين) في وقت لا يعفى المواطن من كلفتها. وقس على ذلك الطبابة وسائر الخدمات.
هناك أيضاً التهييج المذهبي والطائفي الدائم بمناسبة الانتخابات لشد العصبيات واثارة الغرائز والذي يمنع الناخب من الاختيار بحسب قناعاته او مصلحته كمواطن فنجده يلتحق بجماعته ويختار من اختاره الزعيم. فيفقد حينها قدرته على المحاسبة ولا يعود للرقابة من معنى.
هذا الأمر يعيق تشكل رأي عام يضغط باتجاه التغيير عبر صناديق الاقتراع .
لأن عليه أن ينتخب مَن سوف يخدمه. بانتظار تغير الأحوال.