لم تكن الأمور هكذا في لبنان على الدوام. كان ثمة موالاة وكان ثمة معارضة. كانت المعارضة على درجات، وكان «الاستثناء اللبناني»، سواء لمسوّغ ميثاقي أو لتوصية وصائية، يجعل المعارضة في داخل الحكومة. منذ الانسحاب السوري، والانتخابات النيابية التي تلته، اندثر مفهوم المعارضة. أنماط عديدة عرفناها من التعطيل في العقد الأخير، أما الاعتراض فلم يعد مسلكاً سياسياً له أصوله، وطرائقه في الممارسة والمحاسبة والمراقبة والتعبير، والسعي إلى تبديل الأمور لصالح القوى التي تندرج في عداده.
مع تراجع استخدام مفهوم «المعارضة» - الذي كان مفهوماً أساسياً ما بين انتخابات 2000 ولحظة الانسحاب السوري ـ اندثر ايضاً مفهوم «الموالاة». إذ يفترض نظرياً اليوم، أن تحتسب كل القوى المنخرطة في التسويتين الرئاسية والحكومية على أنها «الموالاة»، وهذا بعيد عن الواقع. أما «الاعتراض» فيكاد يكون «تخصّصاً» من طرف خارج السلطة، بمعنى خارج الحكومة، ضد طرف بعينه داخلها، وليس اعتراضاً يستهدف التداول على السلطة بين توليفة سياسية وأخرى. الضمور التاريخي لليسار في لبنان ساهم هو الآخر بهشاشة مفهوم المعارضة. لم تكن الأمور سجالاً إلا في مرحلة محدودة زمنياً من تاريخ لبنان، بين يمين ويسار، لكن بقي هذا البعد في جزئيته قائماً ومؤثراً، ويوجد نوع من «المعارضة الدائمة» كالتي كان يؤمّنها الحزب الشيوعي في فترته النضالية الجماهيرية. ما زال هناك جمهور تجتذبه الأفكار اليسارية في لبنان، لكن يصعب القول أن هناك اليوم معارضة يسارية فاعلة، تُحدث استقطاباً بإزائها. أما قوى اليمين فلم تعتد تاريخياً في لبنان أن تكون في المعارضة، وتنمي ثقافة معارضة ومحافظة في نفس الوقت، على ما تفعله أحزاب اليمين في أوروبا. وهكذا، ما ان يكون حزب لليمين خارج نادي الحكم في لبنان، حتى تراه يمشي مشية الحجل، ويتصرف كما لو أنه رافعة الصراع الطبقي، ليعود ما ان تسنح له فرصة في الحكم، حزباً مثله مثل سواه في التركيبة اللبنانية.
في الموسم الانتخابي الحالي، كان المفترض بقانون يعتمد النسبية أن يُعيد الاعتبار لمنطق تداول السلطة القائم على ثنائية موالاة ومعارضة، حيث المعارضة تنظّم صفوفها وتُبلور خطاباً جامعاً لأطرها المختلفة، من اجل خوض السباق، وبهدف الفوز به، وتحوّلها هي الى موالاة، وغريمتها الى معارضة. يمكن ان يتقدّم الاستحقاق خطوات في هذا الاتجاه، أو يمكنه ان يبعتد. لكن ما زلنا بعيدين عن لحظة تتوطّد فيها مثل هذه القاعدة.
هناك في لبنان اليوم معترضون على التسوية الرئاسية، ليسوا هم أنفسهم المعترضون على التسوية الحكومية، وهناك معترضون على «الطبقة السياسية» ككل، وبعض هؤلاء جزء من الطبقة السياسية. هناك معترضون على سياسات مالية او اقتصادية. لكن ليس هناك معارضة، تخوض الاستحقاق على انها كذلك، معارضة تتوخّى من الاستحقاق التداول على السلطة.
أعطى هذا الفراغ في موقع المعارضة المجال لرواج تسمية قوى المجتمع المدني، ومرشّحي المجتمع المدني. في هذا الباب تنويعة لا يمكن اختزالها في لون واحد. لكن الملاحظ الإكثار من الحديث عند هؤلاء عن «السلطة»، كما لو أن خوض الاستحقاق النيابي ليس هدفه الوصول الى السلطة، النيابية اولاً، ثم الحكومية، في حال الانضواء ضمن الائتلاف الحكومي. في مقابل هذا الهدف، الذي يُفترض أنه بديهي في السياسة، أخذ مرشّحو المجتمع المدني يُكثرون الحديث عن هدف آخر: «الاختراق». تحقيق اختراق للمنتدى المُغلق للطبقة السياسية، مع أن معظم هؤلاء المرشّحين تُشير سِيَرهم على العكس من ذلك، إلى «الخبز والملح» مع الطبقة السياسية، أو إلى احتمال تعداد بعضهم في عدادها، أو على تخومها.
المكان الخالي بسبب انعدام بلورة مفهوم المعارضة يصعب التعويض عنه بفلسفة «الاختراق» هذه. مثلما أنه، في غياب مفهوم المعارضة، لا يستقيم مفهوم «الموالاة» نفسه، ويتحرّج منه قسم من الموالين أنفسهم، طالما أنهم يريدون البقاء، في دخيلتهم الرومانسية «معارضين».
مع هذا، لا يمكن أن تستمر الأمور مطوّلاً في البلد من دون تحريك ما، باتجاه مفهومَي معارضة وموالاة.