دأب كثيرون من العراقيين والعرب على تحميل بول بريمر، رئيس سلطة التحالف المؤقتة الذي حكم العراق أكثر من عام، جريرة إلغاء الجيش العراقي ووزارات الدفاع والداخلية والإعلام ومؤسساتها. والحقيقة أنه كان عبدا مأمورا لا يتعدّى دورُه تنفيذَ قراراتٍ كانت الإدارات الأميركية الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة في واشنطن قد اتخذتها قبل الغزو بسنين، حين التقت أهدافها القريبة والبعيدة بأطماع سبعة من قادة أحزاب المعارضة العراقية السابقة، وبأمراضهم وأحقادهم، أحمد الجلبي وإياد علاوي ومسعود البارزاني وجلال الطالباني وعبدالعزيز الحكيم وموفق الربيعي والشريف علي بن الحسين الذي طرد بعد ذلك وحل محله إبراهيم الجعفري.
وقد كان أسوأ ما أصدره بريمر هو قانون اجتثاث البعث سيء الصيت. ثم كان الأسوأَ من الأسوأ إقدامُه، بجهل أو بخبث، على تسليم مهمة تنفيذه لأحمد الجلبي رئيسا، ومثال الألوسي ونوري المالكي معاونين للرئيس. ومعروف كيف طُبّق ذلك القانون وعلى من، وكيف صار وسيلة للانتقام الانتقائي وللإثراء السهل السريع.
وفي آخر حوار، قبل يومين، سألت قناة فوكس نيوز الأميركية بول بريمر “يشير منتقدوك في كثير من الأحيان إلى سياسة اجتثاث البعث في العراق التي تركت العشرات من القادة البعثيين المدربين تدريبا جيدا دون وظائف أو آفاق في الحياة، ليصبح العديد منهم، لاحقا، قادة في داعش.
فيرد قائلا وهو صادق دون شك “إن اجتثاث البعث وافق عليه جميع العراقيين (المعارضين) الذين استشارتهم وزارة الخارجية (الأميركية) قبل الغزو. وقد صيغ هذا القانون في واشنطن قبل أن أذهب لاستلام الحكم هناك. لكنني ارتكبت خطأ، وكان ذلك هو تسليم تنفيذه لمجلس الحكم الذي أنشأ بعد ذلك لجنة اجتثاث البعث التي توسعت بشكل خطير جدا على حساب القانون الأصلي”.
وهنا مربط الفرس. نعم. إنه لا يتحمل جريرة صنع قانون الاجتثاث وقرارات حل الجيش والوزارات السيادية الأخرى، ولكن الذي يؤخذ عليه وعلى حلفائه العراقيين الشطار السبعة هو إصدارُها ووضعها موضع التنفيذ عاجلا دون إعداد الخطط اللازمة لتأمين الأموال اللازمة للاستمرار في دفع رواتب منتسبي الجيش وباقي المؤسسات العسكرية والمدنية الملغاة.
فبالإضافة إلى أن أميركا وإيران، بكل جبروتهما، لم تستطيعا اجتثاث البعث، لا فكرا ولا تنظيما، فإن طرد مئات الآلاف من الضباط والجنود دون تعويضهم، ودون تجهيز البدائل لتشغيلهم، وإنصافهم، تحوّل إلى فرصة ذهبية للميليشيات الإيرانية وللقاعدة وأنصار النظام السابق لجذب المقاتلين والخبراء والعلماء والمخططين من العسكريين المطرودين ذوي التجارب الغنية في التصنيع العسكري وفنون استخدام الأسلحة المتنوعة وقتال الشوارع.
فلم يكن لهذا أن يحدث لو كان بريمر عاقلا وعادلا، أو لو كان حلفاؤه العراقيون الشطار السبعة وطنيين يقدمون مصالح وطنهم وشعبهم على مصالحهم ومصالح أولياء أمورهم.
فقد أوهموه بأن جميع مفاتيح الأمة الكردية بأيدي مسعود وجلال، وأن الشيعة الذين يشكلون الغالبية العظمى من الشعب العراقي، والذين ظلمهم، وحدهم، صدام حسين، هم شيعة السيستاني وباقر الحكيم وأخيه عبدالعزيز وإبراهيم الجعفري ومحمد بحر العلوم وإياد علاوي وأحمد الجلبي وعادل عبدالمهدي وموفق الربيعي وباقر صولاغ. وبسبب ذلك ظل يكرر في مذكراته أنه لم يتوقف عن طلب النجدة والبركة من السيستاني لتذليل كل عقبة كان يضعها الشطار الشيعة في طريق إدارته للعراق الجديد.
وها هو، حتى بعد أربع عشرة سنة من الخراب والاقتتال، وحتى بعد أن بلغ عدد القتلى والمشوهين والمفقودين والمهجرين العراقيين (المسجلين رسميا) بضعة ملايين، وحتى بعد خراب البصرة وبغداد والموصل والفلوجة والنجف والناصرية وكربلاء والرمادي والموصل وتكريت، ما يزال عاجزا عن الخروج من تلك الأوهام التي زرعها في عقله وقلبه حلفاؤه العراقيون الذين شتمهم في مذكراته وقال عنهم إنهم “لصوص ومنافقون ومزورون”.
فقد حاورته قناة فوكس نيوز الأميركية مؤخرا، حول الفوضى التي ولدت في العراق في أيامه، وتجذرت، وأصبحت من ثوابت الحياة السياسية والأمنية العراقية من عام 2003 وحتى اليوم، وقد لا تخفّ، ناهيك عن أن تنتهي، إلا بقدرة قادر، أو بطوفان رباني من نوع طوفان أبينا نوح، فسألته “إذا نظرنا إلى الوراء في حكمكم للعراق وما حدث منذ ذلك الحين، ما الذي نجح وما الذي فشل؟”.
فقال “القصة غير المكتوبة للعراق هي مدى نجاحه على الرغم من كل المشاكل. فهناك بلدٌ أجرى أربعة انتخابات، واستفتاءً، وانتخاباتٍ محلية. وعندما جاء حيدر العبادي إلى المنصب (في أغسطس 2014) كان ذلك رابع نقلٍ سلمي ناجح للسلطة في العراق، وهو رقم قياسي في العالم العربي، ربما باستثناء لبنان. وقبل ذلك كتب العراقيون الدستور، ووافقوا عليه، وكانوا يتّبعون الدستور من حيث أحكامه الانتخابية”.
“وفي تاريخ العراق هذه هي المرة الأولى والعالم العربي وهذا غير عادي جدا”. “إن التزامهم السياسي بمحاولة إقامة حكومة تمثيلية منتخبة مثيرٌ للإعجاب”.
وهنا، لا يملك أي فرد، خصوصا إذا كان قد عمل معه في القصر الجمهوري العراقي، إلا أن يحكم عليه إما بالكذب المقصود والتزوير المطلوب، وإما بالجهل والغباء وعمى القلب قبل عمى البصر.
فكيف تسنّى له أن يتجاهل ما رافق أكذوبة الانتخابات الأربعة والاستفتاء والانتخابات المحلية من تلاعب مكشوف ومفضوح، وما أعقبها وما نتج عنها من مصائب وكوارث رسمت حدود الجحيم الأمني والمعيشي والثقافي والاجتماعي الذي غرق فيه الشعب العراقي من أيام حكمه الأولى وحتى اليوم، ولا يعرف أحدٌ متى تنتهي، ومتى تتوقف، وكيف؟
وتسأله فوكس نيوز ما هو الشيء الذي فعلته في العراق وتفخر به اليوم؟
فيرد بكثير من الثقة بالنفس والزهو والانتعاش “أعتقد أن مساعدة العراقيين على وضع الدستور الحديث مع الضوابط والتوازنات، والطريق إلى حكومة منتخبة يختارها الشعب العراقي، كان ذلك هو أنجح ما فعلناه”.
ترى ماذا ينبغي أن يقال عن هذا الخرط والهذيان؟ هل هو عمى بصر فقط؟ أم عمى بصيرة؟ أم خباثة؟ أم كل هذه، معا، وبلا حدود؟