لفتت المشاركة الإيرانية الباهتة في المؤتمر الدولي لإعادة إعمار العراق الذي احتضنته الكويت هذا الأسبوع، أنظار المراقبين إلى عدم اكتراث طهران بمساعدة العراق على الدخول في مرحلة جديدة من الأمن والاستقرار يستعيد خلالها توازنه المفقود في مختلف المجالات.
ولم تقدّم طهران التي لا تنقطع عن إبراز علاقاتها الواسعة مع بغداد أي إسهامات مالية خلال المؤتمر المذكور الذي قدمت الدول المشاركة فيه من داخل الإقليم وخارجه تعهّدات بقيمة 30 مليار دولار للمشاركة في إعادة إعمار العراق.
وفسّر البعض ذلك بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السيئة التي تعيشها إيران والتي تجلّت مؤخرا في احتجاجات الشارع على غلاء المعيشة وتفشي البطالة، لكنّ البعض الآخر اعتبر ذلك موقفا إيرانيا من المؤتمر ككلّ والذي حمل في بعض أبعاده ومعانيه السياسية مساندة إقليمية ودولية لحكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي وتشجيعا له على سياسة الانفتاح والتوازن، التي تعني إرساء علاقات طبيعية للعراق مع مختلف البلدان، بما في ذلك بلدان الجوار العربي على سبيل الندية والتعاون، لا على سبيل التبعية على غرار العلاقة القائمة مع إيران منذ سنة 2003.
ويذهب منتقدو السياسات الإيرانية في العراق حدّ القول إنّ إيران التي استفادت كثيرا من إضعاف العراق وتراجع مكانته الإقليمية غير معنية بعودة الاستقرار إليه واستعادة قوّته.
وحسب هؤلاء فإنّ انفتاح السياسة الخارجية لحكومة العبادي على قوى عالمية وأخرى إقليمية يشكّل قلقا لإيران، ودافعا للعمل مع حلفاء لها في الداخل العراقي من كبار قادة الأحزاب والميليشيات الشيعية، على منعه من الفوز بولاية ثانية على رأس الحكومة خلال الانتخابات النيابية المقرّرة لشهر مايو القادم.
كيف سيكون موقف الدول المانحة من عملية إعادة الإعمار إذا أزيح العبادي عن السلطة وصعد زعماء الميليشيات الموالية لإيران
وتوقّع مراقب سياسي عراقي أن يدفع العبادي “ثمن انتصار لم يحققه”، قائلا “ليس من المؤكد أن شيئا من الأموال التي تم الإعلان عنها في مؤتمر المانحين سيصل إلى الخزانة العراقية. وهو ما سيقوي من شوكة الأطراف المناوئة لفكرة بقاء العبادي لولاية ثانية، بالرغم من أن الرجل لا يشكل مصدر خطر على التركيبة الحزبية التي يتألف منها التحالف الشيعي الحاكم، غير أن قبوله بالأساليب التي سيتم من خلالها إنفاق أموال المنح والمساعادات والاستثمارات يعتبر من قبل تلك الأحزاب نوعا من الرضوخ لشروط ستحرم الكثيرين من إمكانية الاستيلاء على جزء من تلك الأموال”.
ولا يُستبعد أن تكون إيران تعاملت مع مؤتمر الكويت وفق هذا المنظور معتبرة قدوم أموال سائلة من المانحين فرصة لتمويل ميليشياتها في العراق، غير أنّ ما حدث كان مخيبا لآمالها وهو ما سيدفعها إلى سحب البساط من تحت قدمي العبادي لتعرقل عملية الإعمار أو على الأقل تدخلها في متاهة الصراع الداخلي العراقي. وكما هو متوقع فإن الكثير من الدول المانحة لن تقدم على تنفيذ مشاريعها إذا ما تمت إزاحة العبادي عن السلطة، في ظل إمكانية صعود زعماء الميليشيات الذين لن يروق لهم إعمار المدن التي ساهم الحشد الشعبي في تدميرها.
وأظهر مؤتمر الكويت الذي شارك فيه عدد كبير من الدول أنّ أمام بغداد فرصة كبيرة لإعادة بناء علاقاتها الإقليمية والدولية على أساس من التوازن والاستفادة سياسيا واقتصاديا من تلك العلاقات، خصوصا وأنّ العراق مقدم على مرحلة جديدة بعد الحرب على تنظيم داعش يتطلّع خلالها إلى الاستقرار الذي لن يكون مرتبطا فقط بالجوانب الأمنية وهزيمة المتشدّدين، ولكن بعملية إعادة الإعمار التي ترتّب أعباء مالية كبيرة على البلد المنهك اقتصاديا بفعل ظروف عدم الاستقرار التي يعيشها مضافة إلى تراجع أسعار النفط.
ورغم انتماء رئيس الوزراء العراقي الحالي لحزب الدعوة الإسلامية أحد أكبر الأحزاب الشيعية القائدة للعملية السياسية التي أطلتقها سلطات الاحتلال الأميركي للعراق، إلاّ أنّه أظهر اختلافا بيّنا عن سلفه ورئيس حزبه نوري المالكي وبدا أقرب منه إلى منطق الدولة من حيث رغبته في الإصلاح وربط علاقات مع بلدان المنطقة والعالم على أسس براغماتية، والتخفيف من حدّة الارتباط بإيران على أسس عقائدية وطائفية. غير أن تيار إيران يظل قويا في العراق ومتغلغلا في مفاصل الدولة ومسيطرا ميدانيا من خلال الميليشيات المسلّحة، ما يقيّد تحرّك العبادي صوب دول إقليمية مثل السعودية، ويعسّر مهمّته.
وآثر حيدر العبادي الترشّح للانتخابات القادمة في قائمة مستقلة عن حزبه الذي يقوده نوري المالكي وشكّل تحالفا يحمل اسم “تحالف النصر”، في استثمار واضح لقيادته للحرب على تنظيم داعش، لكن تحالفا مضادّا برز مراهنا على استثمار مشاركة الحشد الشعبي في الحرب ذاتها ويحمل اسم “تحالف الفتح” بقيادة زعيم ميليشيا بدر النافذ هادي العامري الذي يُتوقّع أن يكون مرشّح إيران لمنافسة العبادي على منصب رئيس الوزراء.