شكّلت نهاية تنظيم الدولة الإسلامية وهزيمته في العراق متنفسّا لكل سكان المنطقة، لا سيما مسيحيو لبنان والشرق. وأدّى الظهور العسكري لتنظيم داعش بالعراق في يونيو عام 2014، وتمدّده إلى سوريا واحتلاله مناطق عدّة في جرود (ضواحي) السلسلة الشرقية للبنان، التي تشكّل النقطة الحدودية مع سوريا، إلى بروز مخاوف كبرى لدى مسيحيي لبنان.
واليوم، بعد هزيمة داعش واستعادة بلدتي رأس بعلبك والقاع ذات الأغلبية المسيحية في جرود من عناصر التنظيم، يحاول المسيحيون لعب دور أكبر ويأملون في عودة الدولة إلى لعب دورها على كافة الأصعدة، باعتبارها الضامن الوحيد لبقائهم في أرضهم.
وفي نهاية أغسطس الماضي، طرد عناصر تنظيم داعش من أطراف بلدات رأس بعلبك والفاكهة والقاع شرقي لبنان، في عملية أطلق عليها اسم فجر الجرود. ولبنان هو البلد الوحيد في المنطقة، الذي يرأسه مسيحي ماروني، وفق اتفاق الطائف الذي أنهى حربا أهلية (1975 - 1989)، ويشغل المنصب حاليا العماد ميشال عون.
الشكوى المسيحية بعد انتخاب عون رئيسا وإبرام التفاهم بين حزب القوات والتيار الوطني الحرّ (أكبر قوتين مسيحيتين) انخفضت لأن المسيحيين عادوا إلى الحكم
وينص اتفاق الطائف، الموقع بين الفرقاء اللبنانيين في 30 سبتمبر 1989، الذي أنهى حربا أهلية امتدت 15 عاما، على ضرورة إجراء الانتخابات النيابية وفق قانون يراعي قواعد العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين، ويؤمّن صحة التمثيل لجميع فئات الشعب اللبناني، ولم يحدد الاتفاق طبيعة هذا القانون.
ويوصف الدور المسيحي بالمحوري، لا سيما دور أبناء الطائفة المارونية، الذين يشغلون أعلى المراكز في الدولة (رئيس الجمهورية، قائد الجيش، حاكم مصرف لبنان، عدد كبير من الوزراء والنواب وموظفي الفئة الأولى في الدولة).
ودعا البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى عقد قمة إسلامية مسيحية في مقره في بكركي (وسط غرب) من أجل توحيد الصوت في قضية القدس، ردا على إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب القدس عاصمة لإسرائيل.
وقال نائب البطريرك الماروني، المطران بولس صياح، إن “المسيحيين موجودون ويلعبون دورهم ليس فقط في لبنان بل على صعيد المنطقة، وتمثل القمة الروحية التي عقدت في بكركي في 14 ديسمبر الماضي أكبر مثال على الدور المسيحي”. وأضاف أن “مسيحيي لبنان سبّاقون إلى طرح مشكلات المنطقة وأزماتها ومحاولة إيجاد حلول لها”.
وجمعت البطريركية المارونية كل الشخصيات الإسلامية والمسيحية من أجل طرح مسألة القدس، وهذا يدل على التلازم بين المسيحيين ومشكلات المنطقة”. وتابع صياح مؤكدا أن “الإرهاب يضرب الجميع، ولن يخيفنا فهو لم يستثن أحدا، ولا نقف عند مرحلة واحدة من الزمن بل إننا نتطلع إلى الأمام”.
وتظهر أهمية الحضور المسيحي في لبنان من خلال المشاركة في قمم إسلامية، حيث شارك ميشال عون في القمة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي في 13 ديسمبر 2017 بإسطنبول، التي خصصت لبحث تداعيات قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وألقى عون كلمة مهمة عن القدس والقضية الفلسطينية.
اتفاق الطائف، الموقع بين الفرقاء اللبنانيين في 30 سبتمبر 1989، الذي أنهى حربا أهلية امتدت 15 عاما، ينص على ضرورة إجراء الانتخابات النيابية وفق قانون يراعي قواعد العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين
وعانى المسيحيون في لبنان بعد توقيع اتفاق من إقصاء سياسي مارسه النظام السوري الذي كان موجودا، حيث نُفي رئيس الحكومة الانتقالية آنذاك ميشال عون، وسُجن رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. وعاد الزعماء المسيحيون إلى السلطة بعد الانسحاب السوري من لبنان في أبريل 2005، وإطلاق سراح جعجع وعودة عون ليلعبوا دورا في الحياة السياسية.
وارتفعت الصرخات المسيحية المعترضة على تهميش دورهم السياسي؛ خصوصا في بناء السلطة وانتخاب النواب، حيث أعطى 64 نائبا للمسيحيين و64 للمسلمين، غير أن اختلال الميزان الديموغرافي لصالح المسلمين، جعلهم ينتخبون معظم النواب المسيحيين.
وقالت مصادر سياسيّة إن الشكوى المسيحية بعد انتخاب عون رئيسا وإبرام التفاهم بين حزب القوات والتيار الوطني الحرّ (أكبر قوتين مسيحيتين) انخفضت لأن المسيحيين عادوا إلى الحكم وبدأوا يحققون مطالبهم. وأضافت المصادر، التي فضّلت عدم كشف هويتها، أن الوجود المسيحي يرعاه رئيس الجمهورية المسيحي والكتل والأحزاب المسيحية، ولا شك أن اندحار الإرهاب أرسى الطمأنينة في نفوس المسيحيين.
وأوضحت أن “الدور السياسي الذي يضطلع به المسيحيون كبير من خلال المؤسسات ومن خلال حضور رئيس الجمهورية القمم الإقليمية والدولية والحديث باسم الدولة اللبنانية”.
وينتظر أن يزور بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق مار يوسف الأوّل الفاتيكان، السبت المقبل، ويلتقي البابا فرنسيس ليطلعه على أوضاع مسيحيي الشرق والملفات الكنسية. ويرافق البطريرك الكاثوليكي راعي أبرشية بعلبك (البقاع) للروم الملكيين الكاثوليك المطران إلياس رحّال.
وقال المطران رحال إن التنسيق بين الكنائس الشرقية والفاتيكان قائم، وسنبحث مع البابا كل الملفات. وأشار إلى أن خطر داعش قد زال، وأبناء منطقة الشريط الحدودي الشرقي يعيشون بأمان ومتمسكون بأرضهم. واعتبر أنه “يتوجب على مسيحيي لبنان لعب دورهم الحقيقي وأن يستعيدوا حقوقهم، فلا عودة إلى الوراء ولا تراجع عن الدور”، مضيفا “فنحن نصف البلد”.
ويبلغ عدد سكان لبنان نحو 5.4 مليون نسمة، ولا توجد أرقام حديثة حول نسبة المسيحيين والمسلمين، وسط تقارير غير رسمية عن تراجع أعداد المسيحيين مؤخرا نتيجة ارتفاع معدلات الهجرة.