مشينا الخطوات الأخيرة من السوق الصاخب قرب قمة تلة في منتصف مدينة إب اليمنية إلى بوابة مستشفى الأطفال شبه المقفر. لم نر العديد من السيدات والأطفال ينتظرون دورهم في ذلك اليوم الصيفي في 2014 كما هي العادة في المستشفيات الحكومية التي تقدم الخدمات الطبية مجاناً ولكننا سرعان ما عرفنا السبب فمستشفى الأطفال في إب يقع قرب قاعدة عسكرية طالها القصف عدة مرات في الأسابيع الماضية مما جعله أقل أماناً من عيادات أخرى ولكن الأمن واحتمال الإصابة ليسا السببين الوحيدين لتجنب المستشفى.
في داخل قسم الأطفال كان المرضى الوحيدون ثلاثة أطفال خدج في حواضن قديمة وسيدة احتضنت طفلاً ضئيل الحجم بين ذراعيها. تقدَّمتُ من السيدة محدثاً سائلاً إياها عن صحة رضيعها، فأخبرتني بأنَّ حالته بدأت تسوء قبل أيام عندما عانى من الإسهال في بيتهم الريفي البعيد عن أي طبيب. لم تجد العلاجات الشعبية نفعاً وسرعان ما بدأ طفلها يعاني الجفاف والحمى ويبكي باستمرار. انتظر الوالدان لعدة أيام قبل القدوم إلى المستشفى وعندما سألت عن سبب التأخير أخبرتني الوالدة أن تكاليف سيارة الأجرة التي أتت بهم إلى المستشفى من قريتهم وأسعار الأدوية ستجبرهم على البقاء من دون القدرة على شراء أساسيات الحياة لأسابيع.
في الحرب، كما في الفقر، على الناس الاختيار ما بين الدواء والطعام، ما بين النجاة من المرض أو النجاة من الجوع. ولكن الرضيع سوف ينجو من الاسهال هذه المرة على الأقل.
تركتهم متمنياً أن تنتهي الحرب قبل أن تأخذ حياة المزيد من الأطفال والأمهات ولم أعلم حينها أنني سأنظر إلى ذلك اليوم بعد أكثر من ثلاث سنوات فيما تستمر الحرب في اليمن ويضاف إليها وباء من مرض الكوليرا هو الأكبر في التاريخ الحديث.
بعد زيارة المستشفى توجهت إلى عيادة التلقيح الواقعة بجانبه ورأيت حالة مختلفة حيث وقفت العديد من الأمهات مع أطفالهن بانتظار دورهم لأخد اللقاحات الدورية. رحب بيَ الممرضون بالعيادة وأروني اللقاحات المتوفرة وبرنامج التلقيح الوطني في اليمن بفخر، فهم لم يسمحوا للحرب أن توقف قدرتهم على وقاية الأطفال من الأمراض المعدية والقاتلة وطالما توقف اللقاح وجاءت الأمهات سوف يكملون عملهم.
الحرب أعاقت توفر الأدوية واللقاحات
أصبحت اللقاحات الدورية شائعة للغالبية من أطفال العالم منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي عندما قررت منظمة الصحة العالمية والعديد من الدول تأمين اللقاحات مجاناً لجميع الأطفال. وقام برنامج التلقيح الموسع بالوصول إلى ملايين الأطفال حول العالم منقذاً العديد من الموت من التهاب السحايا والحمى الصفراء والخناق والحصبة أو معاناة حياة صعبة بسبب شلل الأطفال.
تظهر الإحصائيات تقدماً مبهراً في نجاة الأطفال بسبب اللقاحات، فالحصبة التي كانت تتسبب في مئات الآلاف من الحالات والوفيات تناقصت بأكثر من 90 بالمئة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع توسع التلقيح في أفقر الدول، وشلل الأطفال الذي كان وبائياً حول العالم حيث أقعد عشرات الآلاف كل عام أصبح شديد الندرة ويتواجد في ثلاثة أو أربعة بلدان.
أتذكر اليوم حتى الأغاني والأهازيج التي كانت تصدح كل يوم من التلفاز في دمشق عندما كنت طفلاً لتذكر الأمهات بلقاحات أطفالهن. والملفت للنظر هنا ليس فقط جمال تلك الأهازيج التلفزيونية التي لا زلت أتذكر كلماتها حتى اليوم بل برامج التلقيح الوطنية التي أعطت القدرة للأمهات والآباء للعب دور أساسي في حماية صحة أطفالهم وأخذ المسؤولية على عاتقهم.
ولكننا اليوم بعد عقود عدة من التقدم نواجه تراجعاً مخيفاً في كل المكاسب التي أحرزتها الصحة العامة وصحة الأطفال في عددٍ من الدول العربية لعدة أسباب بعضها لا يمكن تجنبه وأخرى تقع على عاتقنا.
بعض هذه الأسباب يتعلق بالحرب في اليمن والعراق وسوريا واللاجئين في البلدان المجاورة. بدأت عدة أوبئة تحدث في سوريا على سبيل المثال مثل الحصبة وشلل الأطفال في عام 2013 نتيجة الانقطاعات المتكررة في برنامج التلقيح الوطني ووباء الخناق والكوليرا الحاليين في اليمن. من الواضح أن الحرب لا تؤدي للموت والدمار فقط عن طريق الطلقات والقنابل بل أيضاً عن طريق إضعاف النظام الصحي وتهجير الأطباء والممرضين وعدم توفر الأدوية واللقاحات.
أما الأسباب الأخرى التي تفتقد إلى المنطق تقريباً بقدر ما تفتقد الحرب له فهي تتعلق بامتناع الأهل عن تقديم اللقاحات لأطفالهم. هذه الظاهرة لا تتعلق فقط بالعالم العربي بل هي ظاهرة انتشرت في السنوات الماضية في العديد من البدان متضمنة بلداناً غنية في أوروبا وأمريكا الشمالية. من الصعب حصر الأسباب التي تدفع الأهل الحريصين على حياة أبنائهم وبناتهم للامتناع عن تلقيحهم ولكن بعضها يتعلق بمعلومات طبية مغلوطة انتشرت على شبكة الانترنت تدعي أن اللقاحات مضرة للصحة وقد تسبب أمراضاً أخرى.
الفوائد الصحية للقاحات
من المؤسف أن نكون في وضع يتطلب العودة إلى الأساسيات وتوضيح الفوائد الصحية للقاحات وكونها لا تسبب أمراضاً أخرى لكن شائعات من هذا القبيل يصعب التغلب عليها عندما تنتقل من شخص لآخر أو على صفحات الإنترنت من دون أدلة علمية تدعمها. في الواقع يقف العلم خلف اللقاحات ويشهد على ذلك أن الشخص الذي نشر أول شائعة على نطاق واسع مدعياً أن لقاح الحصبة يسبب داء التوحد الطفلي فقَدَ ترخيصه للعمل الطبي وانفضحت عدم صحة آرائه على نطاق واسع.
ولكن المعلومات المغلوطة قد تلتصق بالذهن كبقع على رداء أبيض. في حالة اللقاحات قد تتسبب هذه المعلومات في مرض أو حتى موت أطفال أبرياء كان من الممكن إنقاذهم بلقاح بسيط ومجاني.
ليس من المفترض أن يموت أطفال أبرياء لا من الحرب ولا من المرض عندما نملك الأدوات الطبية لمنع هذا البلاء. قد لا نستطيع اليوم إيقاف الحرب أو إنقاذ كل ضحاياها ولكن بإمكان كل أم وأب منعُ المرض من إصابة أطفالهم. اللقاحات الدورية هي الطريق إلى ذلك وعلينا سلوك هذا الطريق برغم العقبات والمغالطات فحياة أطفالنا تعتمد على ذلك.