كما بات معلوماً فإنّ إسقاط الطائرتين الحربيّتين، أُدخل عملياً الى غرف التقييم في الدول المعنية بهما، والمستويات السياسية والعسكرية، كما الأطراف المعنيّة بهذين الحدثين، تقرأ التداعيات، وتبحث عن نقاط الخلل، والثغرات التي نفذ منها هذا التطوّر النوعي في المواجهة الجارية في سماء المنطقة، وتحاول تقدير حجم التحوّلات التي فرضها على خطط وأهداف القوى المتواجهة، كما أنّ مستجدات الجدار الإسمنتي اصطدمت بالإصرار الإسرائيلي على بنائه في النقاط التي حدّدتها إسرائيل. هنا ينبري السؤال التالي: الى أين من هنا؟ وهل تقف المنطقة ومعها لبنان على عتبة حرب؟
قد يبدو إسقاط الطائرتين الحربيّتين في حدود تبادل رسائل صاروخية بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في المجال الجوّي السوري. وبالتالي فرض توازن القوة والرعب بينهما في هذه المنطقة ولكن ماذا عن لبنان؟
إسرائيل رفعت وتيرةَ تصعيدِها ضد لبنان حيال عنوانين حسّاسَين الأوّل محاولة بناء الجدار الإسمنتي في المنطقة المتنازَع عليها، والثاني حقول الغاز والنفط وإعلان ملكيّتها لما بات يُسمى «البلوك رقم 9».
على ما يقول أحد الخبراء في الشأن الإسرائيلي، لا يمكن فصل التصعيد الإسرائيلي عن الأزمة التي تعيشها إسرائيل سواءٌ على خلفية السلطة المتطرّفة التي تحكمها، وكذلك على خلفية التطورات الإقليمية والى حدٍّ كبير الدولية، التي جعلت مشاريعها التقسيمية لدول المنطقة العربية، المشترِكة مع الولايات المتحدة الأميركية، تُصاب بانتكاسة حادّة بعد تجاوز سوريا والعراق ودول عربية أخرى، أخطر التحدّيات الوجوديّة في تاريخها.
وصول دونالد ترامب الى البيت الأبيض والكلام للخبير المذكور، أشعر إسرائيل بأنها حقّقت انتصاراً كبيراً، بلغ ذروته مع إعلان ترامب القدس عاصمةً لإسرائيل وعزمه على نقل السفارة الأميركية اليها. ولكنها، أي إسرائيل، بدأت تستشعر انخفاضاً في سقف التوقعات بعد الموقف الدولي الرافض لتغيير الواقع السياسي لمدينة القدس. وبعدما لمست تراجعاً في السياسات الأميركية تجاه سوريا وخصوصاً بعد التدخّل الروسي المباشر وما أنتجه من متغيّرات سياسية وعسكرية.
على هذا الأساس لا تعدو التهديدات الإسرائيلية، وفق ما يقول الخبير في الشأن الإسرائيلي، أكثر من قرقعة إعلامية، وليست باباً لحربٍ فعليّة، هنا يسجّل الخبير المذكور جملة ملاحظات تعزّز فرضية «اللاحرب»:
¶ الملاحظة الأولى، في الأمس القريب، كان منطق بعض المستويات السياسية والعسكرية الإسرائيلية يرفع شعار «أنّ إسرائيل جاهزة للحرب ولكنها غير معنيّة بالتصعيد»، في حين الملاحَظ أنّ بعض صقور حكومة نتنياهو رفعوا شعاراً آخر هو «أنّ إسرائيل جاهزة لحرب إرادية» للقضاء على «حزب الله».
هنا يبدو جلياً أنّ تبديل الشعار يصبّ في خانة التخويف والتهويل، لأنّ «الحرب الإرادية» معناها أن تبادر اليها إسرائيل في توقيتها ضد لبنان، دون انتظار أسباب خارجية تفرضها، وهذه الحرب تصطدم بموانع منها:
• الأجواء الداخلية في إسرائيل التي لا تجعلها قادرةً على اتّخاذ قرار بالحرب، فالأحزاب الدينية تخشى من أن تؤدّي الحرب الى عرقلة مشاريعها في استقدام المزيد من المهاجرين اليهود. وكذلك الامر بالنسبة الى الأحزاب الاستيطانية، التي لا تحبّذ فكرة الحرب، ليس كرهاً بالحرب ولا حبّاً بالسلام، بل لأنّ مِن شأن الحرب أن تحبط أهدافاً كبرى بالنسبة اليها مرتبطة بالقدس وبالمستوطنات وما يُحكى عن «صفقة القرن» التي يتمّ الترويجُ لها لتوطين الفلسطينيين في سيناء أو غيرها.
• عدم القدرة على الحسم العسكري، لا السريع ولا القريب ولا المتوسط ولا البعيد المدى، ضد «حزب الله»، فتقديراتُ المستويات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية عكست مأزقاً في فهم أو توقّع سيناريوهات الحرب المقبلة المفترضة، وعكست قلقاً جدّياً على الجبهة الداخلية في حال اندلاع أيِّ حرب.
وينبغي هنا لحظ تركيز المحلّلين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين على ما أعلنه الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله حول مخازن ومعامل «الامونيا» ومفاعل «ديمونا»، وكذلك لحظ الهاجس الذي يعيشه المستوطنون في المستوطنات القريبة من لبنان، من عمليات كوماندوس للمقاومة في الجليل، وكذلك القلق الجدي الذي ينتاب القيادة العسكرية الإسرائيلية من دخول عناصر مجهولة ومفاجآت غير مسبوقة في حرب كهذه، في ظلّ تنامي قوة وقدرات «حزب الله»، وتعاظم ترسانته الصاروخية، وهو ما جعل الكثير من المحلّلين الإسرائيليين والغربيّين يطرحون أسئلةً من قبيل:
• هدف الحرب الأساس هو هزيمة «حزب الله» وسحقه كما يرد على لسان القادة الإسرائيليين. والتهديد بالحرب جعَل الطرف الآخر على جهوزية لها، وبالتالي انتفى عنصر المباغتة. ثمّ إنّ «حزب الله» كان في العام 2006 يمتلك بضعة آلاف من الصواريخ المتوسطة المدى، ومع ذلك شنّت إسرائيل حرباً وعجزت عن إلحاق الهزيمة به، فكيف يمكن لإسرائيل أن تهزمه أو تسحقه في حرب جديدة، فيما هو أصبح يمتلك ما يزيد على الـ 150 ألف صاروخ قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى، وتغطّي كل مساحة إسرائيل على ما قال أمين عام «حزب الله»؟
• لقد أثبتت القبّة الحديدية أنها ليست بالفعالية التي تقي إسرائيل هطول الصواريخ عليها، فكيف يمكن التحصّن من آلاف الصواريخ المنصوبة على بعد بضعة كيلومترات في لبنان؟
• نطاق الحرب في العام 2006 كان مقتصَراً على نقاط محدّدة في لبنان، ففي الحرب الجديدة ماذا ستكون الحال مع اتّساع رقعة انتشار «حزب الله» في الداخل السوري؟
¶ الملاحظة الثانية، دخول لبنان نادي الدول النفطية من خلال تحالف شركات دولية إيطالية وفرنسية وروسية، يجعل الحديث عن أنّ «استقرار لبنان» يتجاوز الكلام الديبلوماسي باتّجاه أمر واقع مفروض على الجميع وأوّلهم الإسرائيليون.
من هنا، وفي جانب آخر، يبدو الجدار الإسمنتي مجرّدَ شكل آخر من أشكال الشعور الداهم بالخطر الوجودي لدى الإسرائيليين والذي جعل من كيانهم محاصَراً بالجدران ابتداءً من غزة وسيناء جنوباً مروراً بالأردن شرقاً وصولاً الى لبنان شمالاً. وبالتأكيد لا تغيّر في هذا التوصيف المحاولات الإسرائيلية لاستغلال الجدار، وخلق أمر واقع جديد على الأرض، تحاول من خلاله قرصنة الثروات اللبنانية البحرية في الغاز والنفط وهو أمر يمكن إسقاطه بمعركة ديبلوماسية إن أحسن لبنان إدارتها وخوضها.
وواضح هنا أنّ الأميركيين استشعروا بالمخاطر المحتمَلة للادّعاء الإسرائيلي بملكية البلوك الرقم 9، على نحو دفعوا بشخصية رفيعة المستوى في وزارة الخارجية الأميركية مثل دايفيد ساترفيلد الى تكثيف الاتصالات على الجانبين اللبناني والإسرائيلي. والخروج بخلاصة مفادها أنّ التوتر يمكن احتواؤه بالطرق الدبلوماسية، لكنه قرنها بطروحات تُحاكي الهدف الإسرائيلي بالسيطرة على مكتنزات الرقعة النفطية اللبنانية.
¶ الملاحظة الثالثة، الى جانب ما تقدّم، وإضافة الى العوامل الداخلية المانعة للحرب الإسرائيلية على لبنان، تكمن عوامل خارجية على رأسها الحضور الروسي في المشرق العربي حيث لا يمكن لموسكو أن تقبل بتقويض حضورها، وما حقّقته في سوريا وعلى ساحة المنطقة من خلال تصعيد إسرائيلي ضد لبنان.
لعلّ الرسالة الواضحة هنا أمام أيّ مغامرة إسرائيلية، تبدّت في إسقاط الطائرة الحربية الإسرائيلية بصواريخ روسية في الأجواء السورية وليس بعيداً من الأجواء اللبنانية.