اعتدنا ذلك! بتنا نمرّ إلى جانب شخص مستلقٍ على طريق عام يلتحف كيساً من "النيلون"، نتحسر "يا حرام" ونمضي مسرعين إلى عملنا، ليُمحى المشهد ونكمل ما بقي من النهار المتعب الطويل!
اعتدنا سماع أرقام، حتى باتت الوفيات أرقاماً تندثر مع ازديادها. فكلما زاد العدد كانت الحادثة مائلة إلى الزوال. عشرون قتيلاً وأربعة جرحى في استهداف لـ.... وننسى. كنت أذكر عندما كان الأهل والأصدقاء يتلقون خبر وفاة أحدهم، يبحثون في الأسباب، يستاؤون، يأخذون وقتاً في الحداد ويدورون في فلك الخبر حتى كنت أشعر بأننا سنصل إلى حل وسيولد الميت من جديد!
أما الآن، نزفّ الإنسان في الحرب، في المرض، في حوادث السيارات، كبيراً، صغيراَ، نزفّهم على مواقع التواصل، رقماّ جديداً!!
اعتدنا سماع الأخبار....توقفوا لو سمحتم... ماذا تقرأون... مقال رأي، يوميات، استقصاء، أو حتى تحقيقاً سمعياً وبصرياً؟
نعم، تحقيق سمعي وبصري. فقد علمتم عمّ أتحدث، ورأيتم المشهد في مخيلتكم كما ترونه في كل يوم جديد، ولكن.. عندما نغادر الطرقات ويختفي الرجل الستيني، والمرأة ذات البشرة الداكنة والطفل ذو بقع الشمس الداكنة على بشرته... هم يبقون...ويبقون.. يعملون ويتسوّلون..
تنص شرعة حقوق الإنسان على مبادئ كعدم التمييز بسبب لون البشرة، نحن نخرق هذا القانون يومياً، أو الأجدر، يجبروننا على خرقه كلما نظرنا إلى عيونهم وبشرتهم المتعبة. يجبروننا على تخطي فكرة المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة. فهذه العائلة المنتشرة على الأرصفة تعمل بتساوٍ لتأمين قوتهم، وقرميدٍ يحميهم من الشتاء ومن الصيف.
أقلت قرميداً؟ أعتذر. ربما خيمة... فحتى المواطن اللبناني الذي يعمل بدوام عادي، لا يمتلك القدرة على شراء ذلك القرميد البرتقالي الذي لطالما كنا نحلم به منذ الصغر...
أخطّ على هذه الورقة بمفاتيح الحاسوب وأنا أحتسي الشاي، وأجلس مرتاحة على كرسيّ المكتب، محاولة قدر الإمكان نقلَ مشاعر وأنا أحرّك ضمير البشر
والدول، وأشعر... بالاحتيال.
لست أنا من تتغلغل إلى أطرافي الأمطار، ولا الثلوج، ولا الألم من دون أمل... فنحن لا نعرف ماذا يعني شعور أنه ستتم معاقبتي لأن أحدهم قرر أن يمضي في طريقه من دون تسليفي المال.. تسليفي وليس إعطائي... كمصرف يأكل بشهية وينهش من لحم مواطن. فهذه البخشيشات هي عبارة عن تذكرة سلام مؤقت عند المساء كي لا يُعنّف طفل يستحق أن ينام قرير العين ليستقيظ في صباح باكر حاملاً همَّ فرضِ البارحة وليس تأمين لقمة العيش... وإلا....
أنظر وأعيد قراءة ما كتبت.... يا لنا من مخادعين ومخادعات، حتى وإن قمنا بمساعدة أحدهم. نخاف الله، نحبه أو نشفق على من هم أكثر فقراً منّا. فهم يذكّروننا بأننا أفضل منهم حالاً، نعطي لكي نخبر أنفسنا أن هناك من هم أسوأ منا حالاً، ولما من ذلك من رثاء لنا ولمشاعرنا المتطايرة...
قل معي، أنا مخادع، لا أسمع ما يجب أن أسمع. أنا مخادعة، لا أرى كما يجب أن أرى. فحتى نظرنا إلى العود في الماء... مخادع. ولذا، وإن كان الحل الأفضل، لتعلُ الأصوات أن تُبلى الإنسانية "كاملة" بالعمى. لعلنا نرى.
(منى يعقوب)