ما يتقاطع عنده كثيرٌ من القيادات والأوساط السياسية هو أنّ ما حصَل ولّد توازناً جديداً في موازين القوى، بل أحدثَ تبدّلاً كبيراً وسريعاً مفاجئاً في قواعد الاشتباك التي كانت قائمة وجعلَ من اندفاع اسرائيل الى ايّ حرب أمراً ليس سهلاً على الرغم من انّ الموقف الاميركي الذي تضامنَ معها نمّ عن دعمٍ لها في هذا المجال، معيداً إلى الأذهان ما ساد في تشرين الماضي من مخاوف من حرب وشيكة قيل يومها إنّ إسرائيل شتشنّها في أيّ لحظة ضد «حزب الله» الذي يؤرقها ويقضّ مضاجعَها من جرّاء تعاظمِ قواه القتالية سلاحاً ومقاتلين.
فما حصَل في سوريا والذي وصَفه رئيس مجلس النواب نبيه بري بأنه «أكبر من معركة وأقلّ من حرب» أقام قواعد اشتباك لن تكون معها إسرائيل بعد الآن طليقة الحركة في السماء اللبنانية والسورية، ليس بالطيران الحربي والاستطلاعي فقط، بل بالهجمات الصاروخية أيضاً، لأنّ المنظومة الصاروخية التي استخدمها النظام السوري وأسقَطت الـ«إف 16» الاسرائيلية باتت قيدَ الاستعمال الدائم، ما يعني انّ الحرب المقبلة التي لا ينفكّ الاسرائيليون عن الحديث عنها، والتي لا يَستبعد «حزب الله» والمحور الذي ينتمي اليه احتمالَ حصولها، لا تبدو قريبةً كما كان بادياً في الأفقين الاقليمي والدولي منذ الخريف الماضي.
ولذلك، يقول المتفائلون من السياسيين، إنّ لبنان سيُنجز الانتخابات النيابية في موعدها ليبنيَ سلطته الجديدة التي لن تكون إلّا سلطة وفاقية تأخذ بأهداب وثيقة الوفاق الوطني المعروفة بـ»إتفاق الطائف»، خصوصاً أنّ المواقف السائدة تؤكّد أنّ القوى السياسية الاساسية ستتعاطى مع هذا الاستحقاق بمنطق وفاقيّ غيرَ راغبةٍ ولا طامحة الى الفوز بأكثرية نيابية ترتكز إليها للاستئثار بالسلطة.
وهؤلاء السياسيون المتفائلون يؤكّدون أنّ أهمّية الانتخابات النيابية هذه المرّة تكمن في أنّ القانون النسبي الذي ستُجرى على أساسه يفرض على القوى الخارجية التي تتعاطى عادة، حتى لا نقول تتدخّل، في هذا الاستحقاق، ان تنغمس بدورها في الورشة التوافقية الداخلية التي ستنطلِق بعد الانتخابات لتكوين السلطة الجديدة، فتتحوّل هذه القوى بالتالي رافعةً للتوافقِ بين الافرقاء اللبنانيين بدلاً من ان تكون محرّضةً لبعضهم على بعض، ومِن هنا يبدأ التنفيذ الفعلي لـ»اتّفاق الطائف» الذي يفرض تأليفَ حكومات وحدة وطنية بعدما أنيطَت السلطة التنفيذية بمجلس الوزراء مجتمعاً، بعدما كانت في يد رئيس الجمهورية وحده قبل «الطائف».
على أنّ فريقاً من السياسيين يعتقد أنّ الوفاق الوطني اللبناني يتحقّق ويزدهر ويترسّخ كلّما انحسرَت الأزمات الإقليمية، وهذه الأزمات آيلةٌ عاجلاً أم آجلاً الى المعالجة لأنها لن تبقى الى أبد الآبدين، إذ يتوقع ان تتوافر لها المعالجات اللازمة لأنّ استنزافها للمنطقة وللدول والقوى المنخرطة فيها بلغ الخطوط الحمر، ويرجّح كثيرون في هذا المجال أن تظهر بشائرُ الحلول بدءاً من الربيع المقبل بعدما تكون موازين قوى جديدة قد طرأت في ساحات المواجهة هنا وهناك، من سوريا وصولاً الى اليمن، ومن مصر الى ليبيا وغيرها من الدول المأزومة في المغرب والمشرق.
ولذلك، كلّما اقترب موعد السادس من آذار المقبل، حيث يُقفَل بابُ الترشيح للانتخابات النيابية، سيتصاعد إعلان اللوائح والتحالفات الانتخابية وفقَ «قواعد اشتباك» جديدة، إذ ستكون هذه المرّة خليطاً غريباً عجيباً في بعض الدوائر والمناطق، خصوصاً أنّ بينها مَن سيجمع بين خصوم في السياسة ما كان متوقّعاً لهم أن يتحالفوا يوماً.
كذلك فإنّ الانتخابات في حدّ ذاتها ستشهد مفاجآت، تحدّثَ عنها قبل أيام سفير دولة الإمارات العربية المتحدة السيّد حمد سعيد الشامسي، لناحية ما ستحمله من وجوهٍ وقوى سياسية جديدة إلى الندوة النيابية بفِعل طبيعة النظام الانتخابي النسبي الذي يوسّع دائرةَ التمثيل ويحقّق نسبةً معقولة من العدالة فيه التي ينادي بها «اتّفاق الطائف».
على أنّ هذا التمثيل الواسع والعادل المتوقّع سيكون في رأي البعض اللبنةَ الأولى للشروع في التنفيذ الأمين لـ»اتفاق الطائف»، بحيث يصبح تصحيح ما نُفّذ منه أمراً متاحاً، وكذلك تهيئة الأسباب والظروف المناسبة للبدء بالإجراءات اللازمة لإلغاء الطائفية السياسية المنصوص عنها في المادة 95 من الدستور. وكذلك ربّما ينفتح الباب لاحقاً لانتخاب أوّل مجلس نيابي على اساس وطني لا طائفي حتى يتسنّى إنشاءُ مجلس الشيوخ المنصوص عنه في المادة 22 من الدستور والذي «تتمثّل فيه جميعُ العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
يبقى أنّ المواجهة الأخيرة في الأجواء السورية التي أنتجَت قواعد اشتباك جديدة أبعدت الحربَ المقبلة المتحدَّث عنها، ودفعَت الجميعَ لبنانياً إلى خوض غمارِ الاستحقاق النيابي، لكنّها لم تُزِل من أذهانهم الخوفَ من حصول ما يمكن أن يعطّل هذا الاستحقاق أو يؤجّله، لأنّ بعض القوى لم يستسِغ بعد أنّ المجلس النيابي الجديد الذي سيُنتخَب في 6 أيار المقبل ليس هو من سيَنتخب رئيسَ الجمهورية الذي يخلف الرئيس ميشال عون في 31 تشرين الأوّل عام 2022، لأنّ ولايته تنتهي في 6 أيار من السنة نفسِها، ليكون انتخاب الرئيس الجديد على همّةِ مجلسٍ يكون قد انتُخِب قبل 60 يوماً من ذلك التاريخ.