هو حلم لبناني قديم يتحقق، مستعيداً شريطاً مصوراً من وثائق حرب تشرين العام 1973، عندما تقاطعت خطوط الدخان الابيض بين الطائرات الاسرائيلية المتساقطة، وبين الصواريخ السورية المضادة، لتشكل واحدة من أهم لوحات تلك الحرب، وآخر مظاهرها التي غابت عن السماء طوال العقود الاربعة الماضية .
يومها أيضا توزعت قطع الطائرات والصواريخ المنفجرة على أكثر من بقعة من الاراضي اللبنانية، وتنوعت المواقف والعواطف اللبنانية من الحرب، ومن سوريا..لكن الحدود اللبنانية ظلت هادئة، مطمئنة، كأنها تقع خلف جدار إسمنتي مرتفع ..يشبه ذلك الجدار الذي يشيده العدو الاسرائيلي هذه الايام على طول الحدود الجنوبية، والذي كان شاهداً بالامس على ما يبدو أنه تحول ثابت في دور جبهة المواجهة اللبنانية، ووظيفتها المحددة منذ حرب تشرين.
حافظت تلك الجبهة على سكينتها، على الرغم من الاشتباك الجوي الذي شهدته السماء السورية، كان الأقرب الى حرب العام 1973: تلطى الاسرائيليون وراء الجدار، وتطلع اللبنانيون الى ما فوقه، وترقب السوريون ما بعده.. وكان الايرانيون هم العنصر الجديد والطارىء على المعادلة القديمة التي كانت تحوي الاميركيين والروس، وتختزل حربهم الباردة وتنذر بتحويلها الى حرب نووية حسب ما جاء في الوثائق التاريخية من تلك الحقبة.
الجدار الاسرائيلي يرتفع، معلناً أن زمن الغزو البري للبنان قد ولىّ، وان زمن التسلل الحدودي قد إنتهى، ولم يبق سوى خلاف على علامات الحدود، ما أن يحل حتى يصبح مجرد النظر الى الارض الفلسطينية المحتلة بحاجة الى عناء شديد، ويقتصر التراشق مع العدو على الصوت والخطاب واللغة، وتحيد البندقية والعبوة من أدوات الصراع الشائعة.
الجدار الجديد، يستوحي مثيله المرفوع داخل الضفة الغربية، والذي إستقطع الارض الفلسطينية وشطر بعض منازلها، ومثيله الآخر المنصوب على طول الحدود مع غزة، والذي يحيل القطاع الى أكبر سجن مكشوف في العالم. وكلاهما لم ينهِ الصراع ولم يوقف الاشتباك، ولم يمنع التسلل او القفز فوق الحاجز الاسمنتي العالي، الذي يوصف هناك بجدار الفصل العنصري من جهة، او جدار الحصار الخانق من جهة أخرى.
ثمة فارق بسيط بين الجدران الثلاثة يحسب لمصلحة لبنان ومقاوماته المستمرة منذ بدء الصراع وحتى اليوم. الجدار الجديد ، وعلى تواضع وظيفته الراهنة في ظل تطور أنظمة الصواريخ وطائرات الدرون، هو مطلب لبناني، بل لعله مكسب لبناني أكيد، حتى ولو إقتصرت وظيفته على حرمان العملاء من التهرب عبر الحدود البرية.. مع أن المرجح ان مهمته، هي طي صفحة الاجتياج البري من جهة، وعرقلة التسلل من الجانب اللبناني من الحدود.
هو جدار دفاعي طبعا، يضاف الى رصيد لبنان ومقاوماته المتلاحقة، من دون أن يعني ذلك الإيهام بأن ثمة تعديلاً على موازين القوى مع إسرائيل، أو بأن ثمة تبديلاً في سلوك العدو وخططه لإختراق العمق اللبناني، والتي لن يعرقلها حائط إسمنتي مهما بلغ إرتفاعه، بل ربما يزيدها تحرراً من أي ردود فعل لبنانية او فلسطينية على أي إعتداء إسرائيلي على لبنان.. ما يكسب المواجهة المتبادلة طابع العمل داخل الحدود وبعيداً عنها .
الجدار نفسي أيضاً، كونه يعيد إسرائيل الى تكوينها الاول بصفتها قلعة حصينة مسيجة بالجدران والابراج والاسلاك الشائكة، التي كان يُخشى في ما مضى أن تتسرب الى محيطها، فإذا بها تكتشف الحاجة الى الإنعزال والانكفاء.. والتي لم يبق أمامها من "مسرب" بري، سوى الحدود مع سوريا، التي ربما لن يتأخر جدارها طويلاً ، ولن تشهد نزاعاً على العلامات الحدودية البرية، عندما ينتهي النزاع الجوي.
بالأمس لم يكن الجدار العامل الوحيد الذي أشاع الإطمئنان الى ان الحرب التي إشتعلت على الجبهة السورية الاسرائيلية، لن تتسرب الى لبنان.. ولن يكون الضمان الأكيد بأن الجبهة اللبنانية ستلتزم بالسكينة التي عهدتها قبل العام 1973.