قرار إسقاط الطائرة F16 الإسرائيلية والحراك السياسي والدبلوماسي الذي سبقه وتلاه يكشفان عن تحولات كبرى على المستوى الميداني والسياسي في سوريا والمشرق العربي، بالنسبة إلى جميع اللاعبين المحليين والاقليميين والدوليين المعنيين بالصراع الدائر في المنطقة مع الكيان الصهيوني.

وإذا كان قرار التصدي النوعي للاعتداءات الصهيونية ضد سوريا وحلفائها من قبل محور المقاومة قد وجّه ضربة موجعة لقواعد اللعبة التي سعى هذا الكيان لفرضها سنوات قبل انفجار الأزمة السورية، فإن التوجه نحو موسكو أولاً وطلب وساطتها قبل غيرها لوقف التصعيد الذي نجم عن هذا التصدي يؤشر في الآن نفسه إلى ازدياد الوزن الروسي والتراجع المستمر للنفوذ الأميركي والغربي في الشرق الأوسط، في سياق دولي إحدى سماته البارزة عودة الصراعات بين القوى الكبرى.


المنعطف الآخر يرتبط بالدور المتعاظم لروسيا في المنطقة

 

هدفت «قواعد اللعبة» الإسرائيلية إلى منع سوريا وحلفائها من بناء ومراكمة الامكانيات والقدرات العسكرية التي قد تسمح مستقبلاً بكسر التوازن العسكري المختل لمصلحة إسرائيل. يأتي في هذا الإطار مثلاً قصف إسرائيل لمفاعل الكبر النووي السوري عام 2007 أو اغتيال عدد من قادة المقاومة اللبنانية والفلسطينية في سوريا في تلك الفترة نفسها، أي قبل انفجار الأزمة السورية. بعد انفجارها وتحولها إلى مواجهة إقليمية ودولية مع محور المقاومة، تصاعدت وتيرة الاعتداءات الصهيونية بشكل كبير. فقد اعتبر الطرف الإسرائيلي أن هذا المحور يشرع في عملية بناء للقدرات العسكرية تحت نار ودخان الحرب السورية، وتحديداً في مجال الصواريخ المتطورة. رئيس هيئة الأركان غادي أيزنكوت عرّف هذه الاعتداءات باعتبارها «عمليات ما دون الحرب». وهو رأى أن «عملياتنا ما دون الحرب لم تؤدّ الى تصعيد، لأن أعداءنا يدركون أننا نضرب قدرات ينبغي أن تستهدف. قمنا بشنّ مختلف أنواع العمليات، وبعضها عنيف، وعرف عدد قليل منها... لدينا تفوّق جوي واستخباري، ما يعزز القدرة الردعية للجيش. لقد أقدمنا بالفعل على مئات الهجمات المتنوعة، ولم يكن هناك أيّ رد. هذا يظهر قدرة الردع الكبيرة للجيش، على الرغم من معرفتنا أن الردع مفهوم مائع». لقد أظهر إسقاط طائرة F16 مدى «ميوعة» هذا المفهوم ومحدودية مدته الزمنية. والحقيقة أن محاولات التصدي للاعتداءات الصهيونية لم تتوقف في الفترة السابقة، على الرغم من صعوبة الظروف المرتبطة بالحرب الدائرة في سوريا. وقد لاحظت صحيفة «جيروزاليم بوست» أن «الطائرات الاسرائيلية تستهدف عادة من قبل الدفاعات السورية، الروسية الصنع، ومنذ تدخل الروس في الحرب السورية الدامية أصبح النظام السوري أكثر حزماً في تصدّيه للهجمات الاسرائيلية». الحقيقة البديهية الأخرى التي يتجاهلها الكثير من التحليلات المنحازة هي أن الجيوش التي تخوض مواجهات ومعارك شديدة الشراسة من دون أن تنهار تصبح أكثر قوة وخبرة عند نهاية الحرب. هكذا كان حال القوى العسكرية للعراق وإيران عند نهاية الحرب بين البلدين، مع أنها استمرت ثماني سنوات وسقط خلالها مليون ونصف مليون قتيل. التصريحات الرسمية والعسكرية وتعليقات الخبراء والإعلام أظهرت أن الطرف الإسرائيلي أضحى موقناً أن الصراع دخل منعطفاً خطيراً بالنسبة إليه، وأنّ ما يخشاه من عملية مراكمة للقدرات بات يتم أمام ناظريه، وهو لم يجد بديلاً من التوجه مجدداً نحو موسكو طلباً للوساطة لوقف التصعيد.
المنعطف الآخر على المستوى السياسي والدبلوماسي يرتبط بالدور المتعاظم لروسيا في المنطقة. حتى بضع سنوات خلت، كانت الولايات المتحدة تحتكر دور الوسيط والراعي لأي تفاوض يتعلق بالصراع العربي الصهيوني. وحتى عندما كانت تقوم أطراف أخرى بنقل رسائل بين أفرقاء النزاع أو استضافة مفاوضات سرية أو علنية، كانت تفعل ذلك بعد التنسيق مع الولايات المتحدة أو الحصول منها على تفويض. والجميع يذكر كيف حصرت هذه الأخيرة دور الدول الأوروبية في دور «الجهات المانحة» للمساعدات الاقتصادية خلال بدايات ما يسمى عملية السلام، من دون أن تسمح لها بتاتاً بالتدخل في مجريات المفاوضات السياسية. لقد تغيّرت الأوضاع على نحو كبير اليوم، ولكن بالنسبة لروسيا، فهي وحدها قادرة على التحدث إلى الأطراف المتصارعة ومن دون التشاور بالضرورة مع الولايات المتحدة. يعزز هذا الأمر من موقعها الاقليمي والدولي كقوة «لا غنى عنها» لحفظ الاستقرار، وهي صفة كانت الولايات المتحدة تعتبر أنها الوحيدة التي التمتع بها بين دول العالم. وأتى تقرير «مجموعة الأزمات الدولية» الذي يؤكد على مركزية دور روسيا كوسيط لاحتواء التوتر المتصاعد بين إسرائيل والدولة السورية وحلفائها، الصادر منذ بضعة أيام قبل إسقاط الطائرة، ليبرز اتساع هذا الاقتناع على المستوى الدولي بين المؤسسات والهيئات المعنية بالتوسط في النزاعات، وهو أمر يزيد من حنق إدارة ترامب ــ ماتيس بلا ريب.
في السنتين الماضيتين، أكثر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من زياراته لموسكو، آملاً بتطوير العلاقات الخاصة مع الرئيس فلاديمير بوتين، لحمل هذا الأخير على تبنّي جزء من المطالب الإسرائيلية المتعلقة بالدور الإيراني في سوريا. بعد سنتين، خلص الإسرائيليون إلى أن موسكو ممكن أن تتدخل لوقف التصعيد، لكنها لن تلبّي مطالبهم الأخرى. فبحسب جنرال الاحتياط يوسي كوبرواسر، المدير العام الأسبق لوزارة الشؤون الاستراتيجية، «تطورات يوم السبت (يوم إسقاط الطائرة) تعني أن الرسائل الإسرائيلية التي وجّهت عبر موسكو لم تصل أو أن الجمهورية الإسلامية تجاهلتها... موسكو تستخدم من قبل الإيرانيين، وهي بمعنى ما تتحول إلى أحمق مفيد لهم». من المفهوم أن يخرج الجنرال عن طوره بعد التطورات الصادمة ويتكلم بلغة غير دبلوماسية عن لاعب دولي تتأكد أهمية دوره، لكنه يتغاضى عمداً عن محاولة تفسير السلوك الروسي وربطه بالسياق الدولي الأوسع. سؤال بديهي يفرض نفسه: لماذا ومقابل ماذا تقوم موسكو بمساعدة واشنطن وتل أبيب على الحد من دور إيران في سوريا، وهذا الدور موجّه ضدهما، بينما تعتمد الولايات المتحدة رسمياً سياسة شديدة العداء لروسيا ولمصالحها الحيوية؟ في سياق دولي سِمته الرئيسية عودة الصراع، المسمّى تهذيباً «تنافس»، بين القوى الكبرى، وبشكل خاص بين روسيا والولايات المتحدة، ستتعمق الشراكة بين روسيا وإيران، وقد تصبح تحالفاً في مواجهة واشنطن في أكثر من ساحة. قد تدخل روسيا مجدداً لوقف تصعيد محتمل في الأيام أو الأسابيع القادمة، لكن من المؤكد أنها لن تحرّك ساكناً لعرقلة بناء القدرات المستمر تحت النار