ليس من السهل أن تقتحم عالم السياسة في لبنان وتبقى صامدا في وجه العواصف العاتية التي تأتيك من كل الجهات وبشكل مفاجىء ، في توقيت غير متوقع أبدا .
وإن إستطعت الصمود فهو إشارة واضحة على أنك من نادي الكبار الذين يتحكمون بمفاصل اللعبة في لبنان .
لكن أيضا ، ليس من السهل أن يهتم سياسي في لبنان بمؤتمر بعيد عن الإستحقاقات الطبيعية الموجودة في البلد وأن يجمع فيه مختلف التوجهات السياسية ومن ضمنها أفرقاء يخاصمونه، وهذا لعمري لذة الحرية الفريدة في بلاد الأرز وسط صحارى العرب المثقلة بالظلم والقمع والديكتاتوريات.
منذ أيام ، نظم رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع مؤتمر مخصص للبحث في مستقبل الشرق الأوسط وتداعياته على الأمن الأوروبي والسياسة الخارجية.
شارك في المؤتمر مسؤولون من الإتحاد الأوروبي ورئيس كرواتيا السابق ، إضافة إلى شخصيات سياسية وفكرية لبنانية من مختلف التوجهات السياسية.
وكان من بين المداخلات التي أثارت جدلا جميلا في المؤتمر ، مداخلة لرئيس المركز العربي للحوار والدراسات الشيخ عباس الجوهري ، الذي قدم مطالعة في التاريخ والسياسة مع بعض اللمسات الفلسفية ، لتوصيف العلاقة القائمة بين أوروبا والشرق.
أكد الشيخ الجوهري على وجود علاقة يسودها الخوف والرعب والشكوك بين الشرق وأوروبا بسبب تركة التاريخ الثقيلة بأحداث الحروب والمعارك والقتل والفتوحات والغزوات والحملات العسكرية.
و شدد على أن تعاطي أوروبا اليوم مع أزمات الشرق الأوسط هو تعاطي بارد وجامد لا يهدف إلى تقديم حلول جذرية بقدر ما يتعاطى بلامبالاة معها على الرغم من الأدوار الأوروبية الفعالة على صعيد المساعدات الإنسانية والإقتصادية التي تقدمها دول الإتحاد لشعوب الشرق ، إلا أنها تبقى دون سقف الطموحات وهي أدوار للتخفيف من وطأة هذه الأزمات لا حلها بشكل نهائي.
وفي الوقت نفسه ، لا يبدو الجوهري تقليديا في معالجته لهذه القضية ، ولا يتعاطى معها على أنها مؤامرة أوروبية ١٠٠ ٪ ضد شعوب الشرق ، إذ أنه في مكان ما يحمل المشرقيين مسؤولية في دفع أوروبا لأن تتعاطى معهم بهذه الطريقة.
إقرأ أيضا : مستقبل الشرق الأوسط وآثاره على الأمن الأوروبي والسياسة الخارجية
يقول الشيخ الجوهري :" الإيديولوجيا التي تطبع إنساننا المشرقي شديدة الخطورة وخصوبة مجتمعاتنا المشرقية إذا ما تلمست القدرة في لحظة تاريخية فإنه قد يشكل خطرا على الأمن الأوروبي ..."
فالشيخ يحاول أن يتفهم في مكان ما الهواجس الأوروبية ، وهذا التفهم لا نراه اليوم عند المفكرين التقليديين الذين يرمون بكل مشاكل الشرق على أوروبا والغرب بشكل عام.
وفي الوقت عينه ، يشير الجوهري إلى وجود مصلحة أوروبية بإستمرار أزمات الشرق للإبقاء على ما يسميه ب " الفجوة الحضارية " لكنه لا يحمل أوروبا مسؤولية خلق هذه الأزمات.
هذه الأزمات هي صنيعة أنظمة ديكتاتورية مشرقية يبدو أن أوروبا غير متحمسة للضغط عليها للإطاحة بها لعوامل عديدة منها أن هناك تيار فكري في أوساط الأوروبيين ينادي بعدم ضرورة نشر الديمقراطية في الشرق وأن العصا هي الطريقة المناسبة لحكم الشعوب هناك كون الديمقراطية لا تليق إلا بالشعوب المتحضرة.
وأيضا ، أوروبا باتت ترى الأمور بعيون إقتصادية لا سياسية ، حيث أنها مستعدة للتعامل مع أي نظام ديكتاتوري في حال أمن لها مصالحها الإقتصادية.
هذه الرؤية الأوروبية بغض النظر عن ممارسات الأنظمة الديكتاتورية ، ساهمت في تراجع التأثير الأوروبي ، وساعد أيضا على هذا الشيء الدورين الأميركي والروسي واللاعب الصيني الذي دخل ملعب الشرق.
لذلك ، يرى الجوهري أن على أوروبا تغيير سياستها الخارجية وأن تولي إهتماما بطموحات شعوب المنطقة ، لا أن تساند أنظمة الجور والديكتاتورية.
مداخلة الشيخ عباس الجوهري لم تمر من دون رد من قبل رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع الذي أكد على محبته وتقديره للشيخ لكنه خالفه في مقاربته للقضية.
يرفض الدكتور جعجع نظرية المؤامرة ويعتبر أنه يمكن أن يكون هناك مفكر أو سياسي داخل مجتمع ما يتمنى الفشل لشعوب أخرى وينظر بدونية لهم لكن المجتمعات ككل لا تفعل ذلك.
يبقى أن هذا الجدال الجميل بين الحكيم والشيخ كافيا ليؤكد على المساحة المتبقية من الحرية في ربوع وطننا لبنان ، وأن هذه الجدالات الفلسفية والإختلافات السياسية المضبوطة تحت سقف حرية الرأي والتعبير بسلمية كفيلة وحدها ببناء الأوطان والتأكيد على وجود الأمل بلبنان الغد .