بدأ طبخ الخيارات الكبرى في الشرق الأوسط، على النار طبعاً لا على البارد. فالحروبُ العسكرية الكبرى، بمعنى الاجتياحات، انتهت في سوريا والعراق، والآن بدأ تكريس الوقائع على الأرض. والمناوشات الحدودية في الشمال (مع الأتراك)، كما المناوشات الحدودية في الجنوب (مع الإسرائيليين) ضرورية لإنضاج الطبخة.
في المنطق، لا يكفي إسقاط طائرة حربية إسرائيلية لإشعال حرب على الحدود الإسرائيلية- السورية. لكنّ اندلاعَ حرب حقيقية هناك ممكن إذا كان هناك استثمار سياسي لها. وعادةً، يكون اندلاعُ الحروب نتيجة مبرِّرات منطقية، حيث يكون هناك طرفٌ أو أكثر مستفيدين منها.
فكيف يمكن توصيف ما جرى في سوريا: مدخلٌ إلى حرب حقيقية أم حادثٌ عابر سيتجنّب الطرفان تكرارَه؟
في المبدأ، اعتادت المقاتلات الإٍسرائيلية، طوال سنوات، على شنّ غارات على أهداف لإيران وحلفائها ونظام الرئيس بشّار الأسد في داخل سوريا وعلى الحدود مع لبنان، وربما في داخل الأراضي اللبنانية. ولم يكن يفكِّر الإيرانيون في الردّ عسكرياً.
وهذه المرّة، ردّوا بإسقاط طائرة بصاروخ «سام 5» الروسي الصنع. وهذا يعني أنّ إسقاط طائرةٍ في الغارات السابقة كان أمراً متوافراً، وأنّ هناك ما دفع الإيرانيين اليوم إلى الردّ.
التحليلات في هذا الشأن متعدّدة، لكنّ أبرزَها هو أنّ إيران بدأت تشعر بمحاصرة حقيقية في سوريا. فنفوذُها يتقلّص في شكل متسارع لمصلحة القوى الإقليمية والدولية حتى باتت في وضع صعب. ويمثّل هذا الأمر خطراً شديداً على المصالح الإيرانية الاستراتيجية في الشرق الأوسط ككل.
المثالي بالنسبة إلى الإيرانيين هو أن يسيطروا على سوريا بكاملها، فيحققوا الهدفَ الاستراتيجي الذي لا يقدَّر بثمن، وهو بسط نفوذهم بنحو كامل في «الهلال الشيعي»: العراق وسوريا ولبنان، وطموحهم يشمل مناطق السلطة الفلسطينية والأردن. وتكون السلطات في هذه الدول رهنَ أيديهم.
وهذا ما يحقق لهم أيضاً:
1 - الوصول إلى مياه المتوسط - الزاخر بالنفط - من خلال الشاطئين السوري واللبناني، بما لذلك من أهمية اقتصادية وعسكرية.
2 - ضبط الأكراد وبيع هذه الورقة لتركيا.
3 - ضبط الإرهابيين والنازحين وبيع هذه الورقة للغرب.
4- السيطرة على الورقة الفلسطينية وورقة السلم والحرب مع إسرائيل.
ودفع الإيرانيون، مباشرة ومن خلال حلفائهم، أثماناً باهظة في حروب العراق وسوريا، لبلوغ هذه المكتسبات، لكنهم لم ينجحوا تماماً. ففي النهاية، ما أنقذ نظامَ الرئيس بشار الأسد هو تدخّل القوة الضاربة الروسية، سريعاً، لا تدخّل الميليشيات الإيرانية المقاتلة.
والروس، لم يجرؤوا على المبادرة لولا الغطاء الأميركي والتفاهم مع إسرائيل. فحتى اليوم، لم تقع أيُّ مواجهة روسية - إسرائيلية أو سوء تفاهم على الأراضي السورية، إلّا في شكل عابر وغير مقصود. فالروس رسموا حدود نفوذهم شمالاً وتركوا لإسرائيل أن تتصرّفَ جنوباً…
وحتى عندما تنفِّذ إسرائيل غاراتها على أهداف (إيرانية) للنظام، شمال سوريا، يلتزم الروس الصمت. والأرجح أنّ الروس يتفهّمون «مشروعية» أن تنفّذ إسرائيل ضرباتها. ويتركون لها أن تحقق هذا الهدف، في مناطق نفوذهم، «بالوكالة عنهم». فليس منطقياً أن تقوم روسيا نفسُها بضرب أهدافٍ لإيران، في حضن النظام الذي يدعمه الإيرانيون والروس معاً!
ينظر الإيرانيون اليوم إلى الخريطة السورية فيجدون أنهم غائبون عن الشمال الكردي، المدعوم أميركياً، حيث يحاول الأتراك تنفيذ عملية تأديب لا تبدو ناجحة حتى الآن. وغائبون طبعاً عن مناطق نفوذ المعارضة السورية. وأما مناطق الأسد التي هي عملياً مناطق نفوذهم فيشدّ الروس قبضتهم عليها، بالتفاهم مع الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل التي تمنع أيَّ قوة إقليمية من تثبيت نفوذٍ لها في الجنوب السوري.
يحاول الإيرانيون اليوم إنقاذَ ما أمكن من «خطتهم الكبرى». فعلى الأقل، يريدون تقاسم النفوذ مع الآخرين في سوريا من أجل إبقاء جسر لا انقطاع فيه، يربطهم ببغداد ودمشق وبيروت.
وهنا يبدو التحدّي كبيراً:
1 - هل منطقة نفوذ الأسد ستكون في المستقبل جزءاً من نفوذ روسيا أم إيران؟
2 - هل مسموحٌ لإيران السيطرة على الحكومة المركزية في بيروت؟
3 - هل تسمح القوى الدولية وإسرائيل بنفوذ إيران على حدودها الشمالية وبأن تكون لها القدرة على لعب الورقة الفلسطينية؟
4 - هل تتوافق القوى الإقليمية المتوسطية، والقوى الدولية، على مدّ نفوذ إيران بعيداً عن حدودها لتشارك في مصالح البحر الأبيض المتوسط؟
على الأرجح، على إيران أن تقيم حسابات أكثر واقعية في سوريا، خصوصاً في تنظيم علاقتها مع «الحليف - المنافس» روسيا، صاحبة العلاقات الطيّبة مع إسرائيل. فبقاء الأسد لا يعني بالضرورة أنه استمرار لنفوذها. فهل الأسد روسي أم إيراني؟ تلك هي المشكلة…
إذا قام الروس بـ»مصادرة» الأسد إلى حضنهم، وأبعدوه عن الحضن الإيراني، فسيكون كل ما بذله الإيرانيون من تضحيات للحفاظ عليه قد قطفه الروس. وهذا أمر له تداعيات خطرة على مجمل اللعبة، وخصوصاً في لبنان، حيث الأميركيون يقفون بالمرصاد لأيِّ محاولة إيرانية للسيطرة على السلطة الكاملة في بيروت.
إذاً، ما ظهر في الأيام الأخيرة يوحي أنّ اللعبة مقبلة على فصول عدّة:
1 - التهديد الإسرائيلي للنفط اللبناني قد يكون أيضاً «حركشة» لدفع لبنان إلى بلورة خيارات تفاوضية وسط الغليان الشامل.
2 - توتير الحدود الإسرائيلية - السورية يصبّ في الاتجاه.
3 - على طاولة اللجنة الوزارية في إسرائيل، كان أمس الأحد، خيار ضمّ الضفة الغربية إلى إسرائيل. وعندما يصوّت الإسرائيليون على هذا القانون في الكنيست، فسيكون ذلك الحدث التاريخي الثاني من نوعه، بعد ضمّ الجولان السوري عام 1981. وكان «الليكود» أقرّ بغالبية ساحقة ضمّ الضفة في كانون الأول الفائت.
إذاً، الجميع ينخرطون جدّياً في البحث عن مستقبل كيانات الشرق الأوسط ونفوذ كل من القوى الإقليمية والدولية فيها. وهنا لا أحد «يرحم» أحداً. والاشتباك الإسرائيلي - الإيراني فوق سوريا جزءٌ صغير من مشهد متكامل. وحتى الآن يصعب الجزم بما ستؤول إليه مظاهر التصعيد، ولكنها بالتأكيد من علامات التحوُّل في الشرق الأوسط.