إن الحرب كما يقول ماركس: "تشبه قذف الأمة بجزء من رأسمالها في البحر"، ولكن لماذا تحظى الإنتصارات العسكرية الملطخة بدماء البشر سواء كان صديقاً أم عدواً، بكل هذا التعظيم، وهل تستحق حقّاً أن نفخر بها؟
يُعتبر الفخر بالانتصارات العسكرية آلية لتدعيم الشعور القومي في المجتمع، من خلال عرض صورة أحادية للماضي يراد 'قولبة' المجتمع على شاكلتها. فتتوفر بذلك الظروف ليقرأ الشخص أو الجماعة الماضي من موقع تصورهم عن الذات، فهل يكون ذلك سبباً أساسياً للفخر بالانتصارات العسكرية؟
يقول عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ بجامعة حلوان لرصيف22 أن جميع دول العالم تفتخر بانتصاراتها العسكرية لربط الشعب بالسلطة، ولبناء الهوية الوطنية، ولا يعتبر ذلك سلبياً بالضرورة، لأنه يسهم في تنمية وعي المواطن بتاريخه، ويزيد الانتماء الوطني.
وفي نفس المعنى ذهب أستاذ التاريخ بجامعة عين شمس جمال شقرة خلال حديثه لرصيف22 بقوله إن الإنسان الذي ليس له ماضي ليس له مستقبل، وإن الشعوب تحتاج إلى أن تكون في حالة احتشاد دائمة يدفعها إلى العمل، والحفاظ على ترابها المقدس، ومنها جاءت فكرة احتفال الشعوب بانتصاراتها.
ويضيف شقرة أن الاحتفاء بانتصارات الماضي هامٌّ في عملية تنشئة الأجيال الصاعدة، بغرس الإيجابي من ماضينا فيهم، مع التأكيد على أننا لسنا دعاة حرب، بل مدافعين عن الأوطان.
لكن هذا النقاش، يستدعي تساؤلاً آخر: كيف تمّت هذه الانتصارات؟ وما هي ظروف التجنيد للموناتها؟ فهي بالتأكيد لم تأت على يد جيوش وطنية، فلم تنشأ الجيوش الحديث القائمة على تجنيد مواطنين البلاد، إلا مع ظهور الدولة القومية في القرن التاسع عشر في المنطقة العربية.
العناصر التي كوّنت الجيوش في التاريخ العربي
تنوعت هوية الجيوش في التاريخ العربي، ففي بدايات الإسلام شكّلت القبائل العربية عماد الجيش، من خلال التطوع مقابل نصيب في الغنائم، ويذكر جُرجي زيدان في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، أن القوة العسكرية المسلمة نشأت في عهد النبي من المسلمين بمختلف قبائلهم، ثمّ بعد أنْ دخلت القبائل في الإسلام انطوت تحت لواء الجيش الذي اتخذ تنظيمه وفق الانتماء للقبيلة، وحدّد عمر بن الخطاب رواتب هذا الجيش من خلال الأعطيات، بدلاً من أسهم الغنائم والفيء كما كان على عهد النبي.
وفي عهد الأمويين تولى الحجاج بن يوسف الثقفي ولاية العراق، فألزم القبائل بالقتال، ويقول زيدان: "ثم صار التجنيد سنّة، وأصبح الجند الإسلامي فئتين: المرتزقة والمتطوعة، وكلاهما عرب، وفيهم جماعة من الموالي أو العبيد".
وشهد عصر العباسيين بداية التحول التدريجي من القبائل العربية إلى غير العرب، وكان أهل خراسان الذين نصروا ثورة العباسيين من أوائل غير العرب في الجيش، ثم تلاهم فرق الحرس الخاص من الترك.
ويقول زيدان: "وكانت خلافة المعتصم بداية لنفور العرب من خلفائهم وشكواهم منهم، وكانوا يعبرون بالجند يومئذ عن الأتراك وغيرهم من الأعاجم"، وتضائل شأن القبائل العربية تدريجياً، ولم يعد الجيش يتشكل منهم.
ومع الوقت بدأ استقلال قادة الجند بالحكم، وتأسيس الممالك المستقلة، وشكل العنصر التركي حضوراً كبيراً في المكون العسكري الإسلامي منذ الدولة العباسية، مروراً بدولهم المستقلة على يد السلاجقة والزنكيين والأيوبيين والمماليك.
ويقول علي الصلابي في كتابه "دولة السلاجقة"، أنّ السلطان صلاح الدين قام بإعادة تنظيم الجيش، فصار مكوناً من الأكراد والأتراك والتركمان بشكل رئيسي، وفي هذا التغيير دلالة على ثقته الكبيرة في هذه العناصر العسكرية من خلال المعرفة السابقة بها في جيش نور الدين.
وعن دولة المماليك يقول زيدان: "كان جند المماليك أخلاطاً من الأتراك والجركس والروم والأكراد، وأكثرهم من المماليك"، وكانت رواتبهم تُدفع عن طريق الإقطاع العسكري، والأرزاق من خزينة السلطان.
أما الدولة العثمانية فتكونت من القبائل التركية، ثم اتخذت الإنكشارية وهم غلمان ممن قُتل أسرهم في الدول الأوروبية التي غزوها، وكانوا يدخلون في الخدمة من الصغر، ويربون على الإسلام، والولاء المطلق للسلطان، حتى تم القضاء عليهم على يد السلطان محمود الثاني، وتشكيل الجيش النظامي الجديد، أسوة بما فعله محمد علي باشا في مصر.
ولم يتم تجنيد سكان البلاد الأصليين في الجيوش، ففي مصر لم ينخرط المصريون في سلك الجندية إلا في عهد محمد علي باشا، حين فرض التجنيد الإجباري على المصريين، بعد فشل محاولات تجنيد السودانيين.
فكيف نستدعي انتصارات هذه الجيوش التي قامت على الارتزاق، والطمع في الغنائم، كأمجاد نفتخر بها في الحاضر، وعلى أي أساس نفترض بأننا شاركنا في صنعها؟
كيف نسوغ الاحتفال بانتصارات لم نشترك في صنعها؟
يبين جمال شقرة أن الدول ترث امتيازات الجدود والآباء، مثلما يرث الابن أبيه، وعبر تاريخنا هناك تبعات إيجابية لاعتبار أنفسنا ورثة تاريخ طويل. يؤكذ ذلك علي الصلابي في كتابه "دولة السلاجقة"، حيث يقول:
"إن أي أمة تريد أن تنهض من كبوتها لابد أن تحرك ذاكرتها التاريخية لنستخلص منها الدروس والعبر والسنن". إلا أنّ استدعاء الانتصارات العسكرية من الماضي يتمّ وفق عملية انتقاء، تهدف لشرعنة الحاضر، ومن هنا تختلف هذه الصورة من منظور لآخر.
فالمنظور الديني بتداخله بالسياسي يساهم في قراءة الحروب عبر رؤية أيديولوجية أُحادية، ويؤكد ذلك المعنى عاصم الدسوقي بقوله لرصيف22، إنه من الخطأ دراسة حادثة تاريخية منزوعة من سياقها، من أجل توظيفها لخدمة رؤى معاصرة.
الفخر بانتصارات السلاجقة الأتراك كمثال
يقدم علي الصلابي في كتابه السابق مثالاً للافتخار بالأمجاد العسكرية لدوافع دينية، ومن خلال رؤية تقوم على الصراع لتاريخ الإنسانية، يستدعي التيار الديني رموزاً من التاريخ لاستنهاض الهمم، فيقول الصلابي:
"إن من الأخطار العظيمة التي تواجه الأمة اليوم المد الباطني، الذي يستهدف عقيدة الأمة وتاريخها وعظمائها، فلماذا لا نستلهم الدرس ونستخرج العبرة، فيكون من حكامنا مثل ألب أرسلان، ومن وزرائنا كنظام الملك، ومن علمائنا كالجويني والغزالي، ونوظف الوسائل الحديثة في بث عقائد الإسلام الصحيحة".
إلا أن ما فات الصلابي هو أن هذا المجد لم يصنعه "أجداد" المصريين أو الليبيين أو العرب، فدولة السلاجقة لم تكن سوى مملكة من ممالك العصر الوسيط قامت بسبب هجرة القبائل التركية لغرب أسيا، حتى وإنْ كان هناك انفتاح في مفهوم الهوية لاعتبارهم جزءاً من نسبنا السياسي، لا يلغي ذلك ضرورة أن نتذكّر أنّ حروب دولتهم كان دافعها الأول تحصيل الغنائم، وهي لم تختلف عن حروب جيرانها البيزنطيين في شيء.
والمثير أن الصلابي نفسه لا ينفي ذلك، فهو يقرّ أنّ أحد قادة السلاجقة، إبراهيم ينال، قام في عام 440هـ بغزو الروم والحصول على غنائم كثيرة، وذلك الغزو سببه أن قبائل تركية جديدة جاءت للاستقرار في مناطق نفوذ السلاجقة، فأخبرهم بعدم استطاعته توطينهم، ووجههم نحو بلاد الروم لغزوها باسم الجهاد وللحصول على الغنائم وعلى الأراضي.
أما عن بنية الجيش صانع هذه الأمجاد فيذكر أنه تكون من أجناس مختلفة من الأتراك والتركمان والأكراد والديلم والعرب والفرس، والمماليك والأرمن.
انتصارات محمد علي باشا، وأمجاد الأسرة العلوية
ننتقل إلى مثال آخر، هو محمد علي الذي يُعد جزءاً من الهوية الوطنية المصرية عند أغلب المفكرين، وتُعتبر انتصاراته العسكرية مدعاة للفخر. يقول جمال شقرة: "أن الدولة المصرية في عهد محمد علي مدعاة للفخر لدى المصريين، وأننا نفتخر بانتصارات جيشنا سواء في السودان أو الحجاز أو كريت أو بلاد الشام". كما يرى عاصم الدسوقي أن حروب محمد علي في السودان وغيرها كانت لضمان أمن مصر القومي.
إلا أن هذه الرؤية الوطنية لمحمد علي تلقى معارضة من جانب بعض المفكرين، حيث يقول خالد فهمي في كتابه "كل رجال الباشا": "محمد علي كان أبعد عن أن يكون بطلاً لمصالح مصر، وإنما كان والياً طموحاً لولاية عثمانية، نجح في إدخال إصلاحات مختلفة في ولايته الغنية، وكان يقلقه ألا تجني أسرته ثمار جهوده".
ويستدل فهمي على طرحه بالمقاومة الشديدة التي أبداها الفلاحون المصريون ضد التجنيد، سواء بتشويه الجسد، أو بالهروب من المعسكرات، أو الانتفاضات والتمردات العديدة.
ويقول فهمي: "لم يكن للفلاحين القلقين على عائلاتهم الكبيرة التي تركوها خلفهم، وعلى الأرض التي ستبور بالضرورة حافز يُذكر للالتحاق بالجيش، وحاولوا في ضوء طريقة التجنيد اللامنطقية، أن يقاوموا بكل الطرق".
أما رؤية محمد علي للتجنيد ينقلها فهمي من إحدى الوثائق على لسان الباشا: "نظراً لأن الفلاحين غير معتادين على الخدمة العسكرية، فيجب ألا يُسحبوا إلى الجيش بالقوة، فعلينا أن نرغبهم فيه، ويمكن تحقيق ذلك بتعيين الوعاظ والفقهاء الذين يجب أن يقنعوا الفلاحين بأن الخدمة العسكرية ليست كالسخرة."
ويؤكد فهمي على أن الجنود نظروا للحروب على أنها لمصلحة الباشا، ولم يكن مفهوم الوطنية حاضراً في وعيهم، ويقول أنه حين تلقى الجنود في حلب نبأ انتصار الجيش في حمص صاحوا سويا: "الله ينصر أفندينا". وكانت فترة تجنيد الجنود تصل لخمسة عشرة عاماً، ولقى عشرات الآلاف منهم مصرعهم في حروب لم تكن دفاعاً عن عدو، بل كانت ضد سلطانهم الشرعي وفق تدينهم الإسلامي.
فهل يحق للمصريين الفخر بانتصارات الباشا الآن رغم أنها لم تكن في نظر صانعيها من المصريين سوى سخرة تؤدي للموت؟
فمن المستفيد من الحروب؟
في كتاب "تطور الصناعات العسكرية" يقول محمد الضمور: "إن تجارة السلاح العالمية لا تزال السبب الأكبر للفقر في العالم، لأن المبالغ التي تنفق على السلاح عالمياً تستطيع القضاء على الفقر في غضون سنوات قليلة".
في 2015، جاء في قائمة أصدرها معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي أنّ إجمالي الإنفاق العسكري العالمي بلغ تريليون و776 مليار دولار، أي ما يعادل 2.3% من إجمالي ناتج العالم، وجاءت الولايات المتحدة في أول القائمة بـ596 مليار دولار، تلتها الصين بـ215 مليار دولار، ثم السعودية بـ87.2 مليار دولار، وروسيا بـ66.4 مليار دولار، ثمّ بريطانيا بـ55.5 مليار دولار، تلتها الهند بـ51.3 مليار دولار. بينما أنفقت الإمارات 22.8 مليار دولار.
وشهد عام 2017 نمواً كبيراً في صفقات السلاح التي عقدتها دول الخليج ومصر، وبلغت قيمة ما تم توقيعه وتنفيذه عشرات المليارات من الدولارات. وكانت الجزائر استحوذت على 46% من مجمل صادرات الأسلحة إلى أفريقيا بين عامي 2012 و 2016 بقيمة 6 مليارات دولار، وفق ما ذكره معهد ستوكهولم، رغم عدم وجود تهديد مباشر لها.
أما عن نتائج هذه الحروب، فمن نظر العسكريين والسياسيين يتم تقيمها بمدى تحقيق الأهداف الموضوعة لها، وفق نسبة خسائر.
أما من الزاوية الإنسانية فيبرز السؤال: هل بقي في نطاق تقييم التاريخ، ما يقنعنا أنّ في الحروب ما يساوي حياة الضحايا من البشر؟ إن الحرب كما يقول ماركس: "تشبه قذف الأمة بجزء من رأسمالها في البحر"، فهل تستحق الانتصارات العسكرية التي اتكأت على مآس لمن شارك فيها من الطرفين "المنتصر" والخاسر، أن نفخر بها؟