قبل أن يتوقف صدى التهديدات التي أطلقها وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان حول قلقه من بناء «حزب الله» مصنعاً للصواريخ في جنوب لبنان، أطلق الأسبوع الماضي تهديداً يحذر فيه الحكومة اللبنانية من مباشرة التنقيب عن الغاز.
والسبب، كما ادّعاه الوزير القادم حديثاً من مولدافيا، أن لبنان لزّم «البلوك9» لكونسورتيوم يتألف من ثلاث شركات، هي: «توتال» الفرنسية و «إيني» الايطالية و «نوفاتك» الروسية. ويزعم ليبرمان أن «البلوك» يقع ضمن سيادة إسرائيل، وعليه يطلب من الدولة اللبنانية التوقف عن أعمال التنقيب.
ويبدو أن لبنان قد تجاهل عن قصد تلزيم شركات أميركية خوفاً من ابتزاز إسرائيل واحتمال ترددها في استكمال المهمة. لذلك انتقت الحكومة شركتين أوروبيتين محايدتين تهمهما عملية الإنتاج. في حين كان اختيار الشركة الروسية مبنياً على توقعات سياسية كالتهديد الذي أعلنه الوزير ليبرمان، وبما أن اسرائيل معتمدة على وعود الرئيس فلاديمير بوتين في حماية أمنها من جهة سورية، فإن الحكومة اللبنانية كانت تتوقع من بوتين التصدي لتهديد إسرائيل لمنعها من عمل الشركة الروسية.
والملاحظ في هذا المجال أن قيادة «حزب الله» ظلت صامتة حيال الكلام الاستفزازي الذي صدر عن وزير دفاع إسرائيل. والسبب أنها لا تريد تسييس هذا الموضوع لئلا يستغل بنيامين نتنياهو رد «حزب الله» لكي يجعل منه قضية تعرقل عمل الشركات النفطية الثلاث. لذلك ترك هذه المهمة للرؤساء الثلاثة عون وبري والحريري.
ولكنه في الوقت ذاته أيّد موقف مجلس الدفاع الأعلى للجيش اللبناني، محذراً إسرائيل من مغبة بناء جدار فاصل سبق لترسيم سنة 1949 أن ضم عشر قرى لبنانية. كما حذرها أيضاً من محاولة منع شركات النفط من التنقيب في المياه الإقليمية.
رئيس الجمهورية اختصر موقف لبنان أمام زواره بالدعوة إلى التنبه والحذر من التهديدات الإسرائيلية التي تهدف إلى حرمان هذا الوطن من حقه في استثمار ثروته الغازية والنفطية.
وكان وزير الخارجية جبران باسيل قد عبّر كذلك عن موقف لبنان، بحيث أنه أبلغ الأمم المتحدة عن التجاوزات الإسرائيلية، مؤكداً حق لبنان في الدفاع عن سيادته بكل الوسائل المتاحة.
ويقول خبراء الموارد الهيدروكربونية إن المسح الجغرافي الذي قامت به الشركات سنة 2010 لمنطقة المياه الإقليمية لكل من إسرائيل ولبنان وسورية وقبرص وغزة... ذلك المسح أعطى تقديرات متفاوتة خلاصتها أن هذا الحوض يحتوي على (3455 بليون متر مكعب) من الغاز، إضافة إلى بليوني برميل من النفط، غالبيتها في الحوض اللبناني.
ولقد استقدمت في حينه إسرائيل شركة أميركية يملكها كونسورتيوم من أثرياء يهود كاليفورنيا، هي شركة «نوبل إينرجي». وعلى الفور شرعت في التنقيب والاستخراج. ويدّعي نتانياهو أنه بفضل هذا الحوض دفعت إسرائيل ديونها وقررت تصدير الفائض.
ومعروف أن المتعصبين التوراتيين قد اعترضوا على عملية التنقيب، متسلحين بالنادرة التي تقول إن النبي موسى قاد شعبه لمدة أربعين سنة في صحراء التيه لينتهي بهم إلى فلسطين، حيث لا يوجد نفط. وكان الأحرى به أن يتجه غرباً لعل الإسرائيليين من بعده يطالبون بحصتهم بعد ثلاثة آلاف سنة!
المهم أن الخبراء قدّروا حصة لبنان من الغاز الطبيعي بأكثر من 96 ترليون قدم مكعبة. وهم يتوقعون أن تكشف الشركات المنقبة عن كمية كبيرة من النفط. ويتردد حول هذا الموضوع أن إسرائيل عازمة على سرقة هذه الكمية التي تخص لبنان، وذلك من طريق فرض تأجيل العمل.
ومن المؤكد أن تجربة قطاع غزة تعبر بوضوح عن أهداف إسرائيل وحيطتها تجاه الانفراجات الاقتصادية العربية، ففي سنة ألفين كانت شركة «سي سي سي» للتعهدات تنقب عن المياه في قطاع غزة عندما عثرت بالصدفة على شريان غاز تعهدت باستثماره مع شركة «بي بي» البريطانية لصالح مواطني غزة. ولما علمت السلطات الإسرائيلية بالأمر منعت استخراج الغاز بحجة أن السلطة الفلسطينية كانت شريكة في التعاون، وأن تعاونها يخدم «حماس» و «الجهاد الإسلامي» والقسّاميين. وهكذا حرمت المواطن الفلسطيني العادي من حق استثمار ثروته الطبيعية.
حقيقة الأمر أن لبنان يعوّل كثيراً على هذا الاكتشاف الذي يتوقع أن يخفف عنه أثقال الدين البالغ ثمانين بليون دولار.
وبفضل اكتشاف شركة «إيني» الإيطالية لحقل غاز يخص مصر، وعد الرئيس عبدالفتاح السيسي بأن هذا المشروع سيحقق الاكتفاء الذاتي لمصر خلال مرحلة متقدمة. وقال في حفلة الافتتاح هذا الأسبوع إن الحقل المكتَشَف يُعتبر من أكبر حقول الغاز في البحر المتوسط.
المسؤولون اللبنانيون متخوفون من أن يعيد التاريخ نفسه بحيث تكون حجة إسرائيل حيال الغاز والنفط شبيهة بحجتها خلال المرحلة التي سرقت خلالها مياه لبنان.
وتقدّر المياه التي سرقتها إسرائيل من لبنان وسورية بعد حرب 1967 بسبعمئة مليون متر مكعب في السنة. أي ما يعادل أربعين في المئة من الكمية التي تستهلكها دولة اليهود على مواطنيها في الأراضي المحتلة.
قبل اجتياح الحدود اللبنانية سنة 1978، كان منسوب نهر الليطاني يفوق الكمية التي يوفرها نهر الأردن الذي حولته إسرائيل منذ سنة 1965. ويقول الخبراء إن نهر الأردن يؤمن لإسرائيل 500 مليون متر مكعب من المياه. أما نهر الليطاني فيؤمن 800 مليون متر مكعب.
وكما تحاول إسرائيل إدخال القرى الجنوبية العشر خلف الجدار الذي تخطط لإنشائه، كذلك أدخلت جبل الشيخ (حرمون) ضمن الحدود التاريخية لكيانها الصهيوني.
وفي وثيقة صادرة عن الحكومة البريطانية سنة 1919 ما يشير إلى التزام حكومة صاحبة الجلالة بالتزام وعد بلفور مع كل ما يتطلبه ذلك من ترسيم حدود جديدة تشمل مجرى نهر الليطاني ومنابع مياه نهر الأردن وثلوج جبل الشيخ. أي الجبل الذي تصب من منابعه أنهار الليطاني والحاصباني والوزاني. وهذه كلها تتدفق من خزانات المياه الجوفية لجبل الشيخ الذي يغذي غالبية أنهر لبنان وسورية وفلسطين.
ويُستدَل من مراجعة وقائع المؤتمرات الصهيونية أنها كانت دائماً تعتبر موضوع المياه عنصراً مهماً من عناصر الصراع العربي- الاسرائيلي. ومنذ مؤتمر «بازل» وطموحات الحركة الصهيونية منصبّة على كيفية تأمين المياه للدولة المنتظرة.
وفي كتابه «الديبلوماسية في الشرق الأوسط» يشير المؤلف ج. س. هيوز وكنز إلى أمر بالغ الأهمية يتعلق بحدود فلسطين، وضرورة امتدادها حتى ضواحي مدينة صيدا ومنابع نهر الليطاني ونهر الأردن.
وجاء في المذكرة ما يلي: «تبدأ حدود فلسطين (التي أصبحت إسرائيل سنة 1947) عند نقطة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط بجوار مدينة صيدا، على أن تتبع مصادر المياه عند تلال سلسلة جبال لبنان حتى تصل إلى سدّ القرعون، ومن هناك تتجه نحو البيرة متبعة الخط الفاصل بين حوض وادي القرن ووادي التيم.
تقول مصادر السلطة الفلسطينية إن إسرائيل استخدمت مصادر المياه بصورة عشوائية كأنها وحدها يجب أن تستنزف هذه المادة الحيوية. وهي حالياً تستخدم أكثر من بليوني متر مكعب سنوياً لأغراض الريّ والزراعة فقط. ولهذا يضطر الفلسطينيون إلى شراء صهاريج الماء، على الرغم من الضائقة المالية التي يعانون منها وعلى الرغم من أن المياه المسروقة التي تستعملها إسرائيل تنبع أصلاً من أراضيهم.
باشرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في تنفيذ مشاريعها للسيطرة على مياه الجنوب اللبناني في وقت مبكر من خلال تعطيل أي مشروع لبناني يهدف للاستفادة من هذه المياه.
وفي صيف 1964 قامت الحكومة الإسرائيلية بتعطيل جميع ورش الأشغال العامة التي كانت قائمة عند منابع الحاصباني- الوزاني. كذلك نسفت مشروع تحويل الروافد الذي أقرته جامعة الدول العربية خلال مؤتمر 1967.
خلاصة القول أن المياه ستبقى من أبرز المواضيع التي يمكن البحث بشأنها. ومن المتوقع أن تصبح مسألة الغاز في أهمية المياه، على اعتبار أن إسرائيل حريصة على سرقة كل ما فوق الأرض وما تحتها. وليس هناك أفضل من فلسطين وشعبها شهادة دامغة لدولة قامت على الاغتصاب و «النصب»!