أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب اعتراف بلاده رسميّاً بالقدس عاصمة لإسرائيل وقراره نقل سفارة بلاده إليها غضب الفلسطينيّين والشعوب العربيّة والإسلاميّة ودفعهم إلى الاحتجاج بأكثر من وسيلة. وهذا أمر طبيعي بل بديهي. لكن المفاجئ كان ولا يزال الاعتراض بل الرفض الذي أبداه ولا يزال فريقان من اليهود في العالم وخصوصاً في الولايات المتحدة هما “الارثوذكس” الذين لا يعترفون بدولة إسرائيل ويتمسّكون بموقفهم مبرّرينه بأسباب دينيّة، والليبراليّون الذين يُطالبون بقبول عربي وإسلامي لإسرائيل ويؤيّدون عمليّة السلام وحلّ الدولتين، وينتقدون بقوّة اليمين فيها وزعيمه اليوم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لإصراره فعلاً على القضاء على الحلّ المذكور، وعلى الاستيلاء على غالبيّة الضفّة الغربيّة ومعها “القدس الشرقيّة”. وهم ينتقدون اليوم بل يُهاجمون ترامب الذي قد يكون وجّه بـ”اعترافه وقراره” المُشار إليهما ضربة قاصمة الى عمليّة السلام مُستعملين لذلك حُججاً قانونيّة وتاريخيّة وأدلّة تدعم موقفهم وتثبّته.
ماذا يقول يهود النوع الأوّل؟
يقولون أن التعلّق اليهودي بالقدس لا يعود إلى كونها ومن قديم الزمان “المدينة العاصمة”، بل إلى كونها مقرّاً لهيكلين قديمين جدّاً. وهي لم تكن معروفة في التاريخ اليهودي بـ”القدس العاصمة”. وعندما دُمِّر الهيكل الثاني أحجم حكماء اليهود عن إعادة بنائه لمتابعة ممارسة عبادتهم معتبرين أنه لم يعد هناك أي مُبرِّر أو سبب للعيش في القدس. و”المجموعة الارثوذكسيّة اليهوديّة” الصغيرة التي استمرّ وجودها في هذه المدينة تعتبر الصهيونيّة “هرطقة”. ولا تعترف حتّى اليوم بالشرعيّة الدينيّة أو السياسيّة لدولة إسرائيل. فضلاً عن أن مُؤسِّسي “الحركة الصهيونيّة” ما كان عندهم احترام كبير لـ”المسيح” (Messiah) المنتظر وحتى للقدس. وفكرة أن إعادة بناء الهيكل ستُحيي عادة تقديم الذبائح وتؤسّس من جديد “الكهنوت” اليهودي وغير ذلك كانت في نظرهم مفارقة تاريخيّة في غير موقعها الصحيح. طبعاً منح دافيد بن غوريون أوّل رئيس وزراء لإسرائيل “المجموعة الارثوذكسيّة” الصغيرة بعض الامتيازات مثل الإعفاء من “الجنديّة”. والسبب كان اقتناعه بأن الشعب اليهودي المُتديّن لن يبقى (Survive) في الدولة الصهيونيّة العلمانيّة الجديدة.
ماذا يقول يهود النوع الثاني؟
يقولون أن تذرُّع ترامب بحق كل دولة في تحديد عاصمتها، وبالتاريخ اليهودي القديم في تلك المنطقة منذ العهود التوراتيّة، ليس في محلّه على الإطلاق. فهناك مليار وبضع مئات من ملايين المسلمين في العالم متعلّقون بالقدس، ويتساءلون لماذا الاهتمام بتعلّق يهود العالم بها على قلّة عددهم وتجاهل هؤلاء، ولا سيّما أن الثابت في التاريخ أن المسلمين عاشوا في هذه المدينة على نحو مستمرّ نيّف وألف سنة عبدوا الله فيها وصلّوا في المسجد الأقصى. في حين أن غالبيّة يهود العالم كانوا غائبين عنها في الألفيّتين الأولى والثانية. ويقولون أيضاً أن إسرائيل لا تمتلك حق “تحديد القدس عاصمة” لها، لأنهّا أساساً لم تكن ضمن حدود دولتها، والمقصود هنا القدس الشرقيّة. فهي احتلّتها عام 1967 بحرب عسكريّة، وإذا سلّم المجتمع الدولي بخطوتها وقبلها فعليه أن يسلّم باستيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم وضمّها إلى أراضيها قبل سنوات قليلة. وقد ثبّت ذلك مجلس الأمن ومحكمة العدل الدوليّة عام 2004 عندما قرّرا أن الأراضي التي تقع خلف خطوط هدنة 1967 ليست جزءاً من إسرائيل والقدس الشرقيّة فيها. فضلاً عن أن قرار الأمم المتّحدة تقسيم فلسطين عام 1947 بين اليهود والفلسطينيّين أخرج القدس من دولة كل من الفريقين معتبراً إيّاها “كياناً مُنفصلاً” يجب أن يوضع بتصرُّف “سلطة دوليّة”. وهذا الواقع الذي لم يُطبّق يوماً ينفي حق الإسرائيليّين وكذلك الفلسطينيّين بالسيادة عليها. و”خريطة الطريق” التي وضعتها أميركا والاتحاد الأوروبي تمنع تغييرات من طرف واحد لأي شيء في أراضي الـ 1967. وقد اقرّ بذلك وصادق عليه مجلس الأمن في قراره 2334 الصادر عام 2016.
في اختصار القدس الشرقيّة تقع داخل الجانب الفلسطيني من الأراضي. ولذلك لا يحق لإسرائيل اختيارها عاصمة لها. لكن نتنياهو يزدري القانون الدولي والقرارات الدوليّة ويُجاريه في ذلك ترامب. وذلك أمر لن يؤيّده الفلسطينيّون أبداً ولا سيّما رئيس “سُلطتهم” محمود عباس الأكثر اعتدالاً بينهم. وستكون حماقة كبيرة قبول عباس استئناف مفاوضات السلام مع اسرائيل وبرعاية أميركا. في اختصار يبدو أن موقف ترامب المتبنّي “إسرائيل على كل فلسطين” أو معظمها هو “مسمار آخر في نعش” الصهيونيّة الليبراليّة” كما يقول مُعلّق معروف في الـ”نيويورك تايمس”.