بين كثيرين ممّن شاركوا في إطلاق الثورات العربيّة، أو أيّدوها، تنتشر نظريّة يدعمها أيضاً متعاطفون غربيّون كارهون لأنظمة الاستبداد.
مفاد تلك النظريّة أنّ هزيمة الثورات لا تلغي خروج مواطني تلك الدول من مظلّة أنظمتها ومن ربقة أفكارها. وفي هذا المعنى، بات يمكن القول إنّ حدثاً تحرّريّاً قد استجدّ، حدثاً لا يلغيه انتصار الثورات المضادّة ولا يموّهه.
وهذا ما قد يصلح عزاء للنفس الجريحة، نفسنا. وهو قد يصحّ على أفراد نزحوا أو لجأوا أو هاجروا، فتكامل انسلاخهم الفكريّ وانسلاخهم الجسديّ عن العالم القمعيّ القاهر.
لكنْ من الصعب أن ينجم فعل تحرّريّ، على نطاق شعبيّ، عن المآلات السوداء التي انتهت إليها الثورات. فما بين عودة المستبدّ وتفجّر النزاعات الأهليّة والاحتلالات والتدخّلات الأجنبيّة، هناك أفق بالغ القتامة ينشر ظلّه في المنطقة.
فالخروج من وعي الأنظمة ومن الصورة التي رسمتها للعالم وللعلاقة بين الحاكم والمحكوم قد يفضي أيضاً إلى وعي متشدّد في الدين أو القوميّة أو الإثنيّة. وإذا كنّا نرى اليوم العلامات المتكاثرة على ذلك، لا سيّما في بلدان الثورات، فإنّ شروطاً أخرى تعزّز هذا الافتراض: ذاك أنّ البؤس الاقتصاديّ الذي زاد أضعافاً، وحركة الانتقالات السكّانيّة الضخمة في داخل البلدان وخارجها، يجدان امتدادهما في اليأس من الغد، بل في اليأس من إمكانيّة التغيير أصلاً. وهذا ما يفتح الباب أمام الانضواء العاجز في «الاستقرار» على حساب الحرّيّة والتدخّل الإنسانيّ، كما يفتحه أمام الإحالة إلى قوى غيبيّة «قادرة» يستحيل التأثير فيها، أو قوى أهليّة وعصبيّة مناهضة لكلّ حرّيّة ومبادرة.
واقع الحال أنّنا إذا نظرنا اليوم إلى المنطقة كشعوب (فلسطينيّين، سوريّين، عراقيّين، ليبيّين، يمنيّين...) أو كجماعات (أكراد، مسيحيّين، إيزيديّين...) سننتهي إلى انسداد لا يلوح معه أيّ ضوء. والأنكى أنّ أبواب الحلول الإقليميّة والدوليّة لا تقلّ اليوم إيصاداً عن أبواب الحلول الداخليّة.
وأن تصل بنا الأمور إلى هذا الحدّ فهذا ما لا يستطيع فعلَه عامل واحد وحيد، كالاستبداد أو الثقافة أو النهب والفساد أو حتّى التراكيب العصبيّة والأهليّة التي ربّما كانت الأهمّ والمصدر الأبعد للكثير من العناصر القاتلة الأخرى. فالمنطقة العربيّة تئنّ اليوم تحت وطأة خليط من هذه العوامل مجتمعة في حقبة من الاستقالة الدوليّة.
وإذا كان واحدٌ من أسباب الحال الموصوفة تراكماً على مدى قرن من التحدّيات التي لم تُستجَب، والاستحقاقات التي لم تُلبَّ، والفرص التي لم تُنْتَهَز، فالواضح أنّ «استثناءً عربيّاً» جديداً يتأسّس راهناً. إنّه استثناء سوف يجعل التسمية التسعينيّة التي قصدت الإنجاز الديموقراطيّ حصراً، تسميةً ملطّفة جدّاً وجزئيّة جدّاً.