لا شيء يدفع للاعتقاد أن رئيس الولايات المتحدة الحالي بإمكانه أن يحقق في المسألة الفلسطينية ما لم يحققه أي رئيس أميركي سابق، ولا شيء في المضمون الفكري لدونالد ترامب ما يمكنه أن يكون لافتا يتجاوز كفاءات بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما في اجتراح أفكار خلاقة تخرج المأزق الفلسطيني الإسرائيلي من جموده. وما التلويح المُمل بـ”صفقة القرن” إلا ضجيج يشبه ما أحدثته الحملة الانتخابية لترامب المرشح من صدمات اندهشت لها نُخب الولايات المتحدة السياسية والفنية والأدبية، والتي ما انفكت تتساءل عن توقيت مغادرة هذا الرجل هذا البيت الكبير في واشنطن.
قبل أن يصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض كان قد أطلق وابلا من المواقف بشأن مسائل العالم. كان له رأي باتفاقية المناخ والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي ومواجهة الصين وتعديل الاتفاقات مع كندا والاتفاق النووي مع إيران وبحث جدار المكسيك والتعامل مع كوريا الشمالية …إلخ. وحين أطل على الشرق الأوسط وعد بغرور بأنه سيعمل على إنتاج تسوية تاريخية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، متسائلا باندهاش عما يمنع ذلك فكل شيء قابل للحل والتسوية. ووفق نظرته التبسيطية لأمور الدنيا كما لأمور الولايات المتحدة الداخلية، انتخب الأميركيون هذا الرجل الظاهرة الذي أتى من عالم الأعمال متمردا على النخب السياسية التقليدية، فأطاح بمنافسيه الجمهوريين واحدا بعد الآخر قبل أن يطيح بالمنافسة الديمقراطية فيزيحها عن أبواب البيت الأبيض.
نفذ ترامب الرئيس أجندة “أميركا العميقة” في كافة الملفات الخارجية. انتهج نفس السياسة التقليدية الأميركية في مقاربة ملفات كوريا الشمالية وروسيا والصين، أعاد الاعتبار وفق ذلك للشراكة مع أوروبا ومع الحلف الأطلسي، صوّب سياسته حيال كندا والمكسيك، وبات الجدار الموعود خاضعا لوجهات نظر. وحتى المقاربة الجديدة للملف الإيراني لا تعدو كونها امتدادا لنهج المؤسسات الأميركية الأمنية والسياسية والعسكرية، والتي منحت الرئيس السابق باراك أوباما هامشا أوسع لتمرير اتفاق نووي لا يتناقض مع الهدف الأميركي النهائي بمنع إيران من إنتاج قنبلتها النووية سواء عن طريق الاتفاق أو عن طريق الردع.
تسلل دونالد ترامب من بين الخطوط الحمر للمؤسسات الأميركية، وذهب مذهبا في مسألة القدس لم يذهب إليه الرؤساء الأميركيون السابقون. قيل في الأدبيات الأميركية حول الأمر، إن القرار أتى نتاج ضغوط من شخصيات يهودية نافذة (أحدهم رجل الأعمال اليهودي شيلدون أدليسون الذي قدم مئات الملايين من الدولارات لحملة ترامب) بالتواطؤ مع مستشار الرئيس وصهره، جاريد كوشنر، ونائب الرئيس مايكل بنس، وسفير واشنطن في إسرائيل ديفيد فريدمان، لدفع ترامب لاتخاذ قرار تاريخي بالنسبة لإسرائيل. كان واضحا أن قرار البيت الأبيض لم يلحظ البند المُعطّل الذي ورد في قانون الكونغرس لعام 1995، والذي وُضع داخل النص المطالب بالاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل. فمشرعو مجلس الشيوخ الأميركي أجازوا للرئيس الأميركي تأجيل تنفيذ القرار كل ستة أشهر، إذا ما رأى في نقل القـانون من إطـاره النظري المبدئي إلى مراحل عملية تطبيقية خطرا على أمن ومصالح الولايات المتحدة الأميركية.
والواضح أن ترامب لا يرى أي خطر يتهدد مصالح وأمن بلاده في الإقدام على اتخاذ قراره بشأن القدس. لاحظ المستشارون انهماك منطقة الشرق الأوسط بهواجس تختلف عن تلك التي كانت تحتكرها المسألة الفلسطينية، واستنتجوا أن براكين سوريا واليمن وليبيا، كما الحرب المستعرة ضد تنظيم داعش، قد فككت الوعي العام العربي وأبعدته عن قضية مركزية لطالما التفت المنطقة حولها. بدا أن تقارير متعجّلة أوحت للطاقم القريب من رجل أميركا القوي أن اعتراف واشنطن بالقدس عاصمة لإسرائيل لن يكون إلا تفصيلا عرضيا قد يُقابل بموقف هنا وتظاهرة هناك، دون أن يربك ذلك ورشة طموحة يعمل عليها هذا الطاقم لتحقيق رؤية ترامب المتأسسة على قاعدة “بزنس” مفادها أن “لا شيء يمنع من عقد صفقة، أي صفقة”.
هناك في الولايات المتحدة من تأمل بسرور ذلك التمرد الدولي العام الذي أظهرته غالبية عواصم الأرض ضد قرار الرئيس بشأن القدس. بدا أن المؤسسات التي لا تتردد في تقديم الدعم بسخاء إلى إسرائيل لم تهضم تلك الاندفاعة التي ذهب إليها الرئيس الأميركي والتي تأتي من خارج أي سياق تاريخي لرؤية واشنطن ومقاربتها لمفاتيح الصراع. وبدا أن العزلة التي وجدت الإدارة الأميركية نفسها داخلها من أجل قضية افترض ترامب وصحبه أنها باتت هامشية مقارنة بمسائل باتت أولوية في الشرق الأوسط، تضاف إلى تلال من الملفات الداخلية التي تنمو على طريق السعي لمحاصرة ترامب وربما عزله.
على أي حال يبدو حدث القدس شأنا داخليا أميركيا، وربما عائليا متعلقا برجل البيت الأبيض وحاشيته. لم يفعل إعلان الرئيس الأميركي بشأن المدينة إلا تأكيد العالم بأسره أن الأمر مرفوض، ولن يقود إلى إخضاع الأسرة الدولية لمزاج يرتبط بجاريد كوشنر وزوجته إيفانكا. وفيما مازالت “خلية” صفقة القرن داخل البيت الأبيض تتحدث بثقة عن خطة سحرية تنهي صراع العقود السبعة الماضية، وفيما تعزف تلك الخلية أناشيد الحل الذي لا يناقشه الفلسطينيون بل ينفذونه بحرفيته، يبدو أصحاب الشأن، الفلسطينيون وخلفهم الموقف العربي والإسلامي والأوروبي والأممي الذي ظهر في مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وللمفارقة أيضا، الإسرائيليون أنفسهم، غير معنيين وغير منخرطين بما هو جلبة أميركية ناشزة، ليس فقط عن ترسانة من المرجعيات والاتفاقات الدولية، بل عن ثوابت أميركية موثّقة وعدت قبل غيرها بعدم المسّ بوضع القدس وجعله خاضعا لاتفاق نهائي يصل إليه طرفا الصراع.
يستطيع ترامب وصحبه أن ينشدوا إلياذتهم الطموحة، لكن لا حلّ نهائيا لصراع الشرق الأوسط دون الشركاء في المنطقة، ولا مكان في المنطقة لقرار يصدر عن واشنطن يُفرض على الفلسطينيين دون أي توافق يصدر عنهم.
قدم العرب مبادرتهم للسلام في قمة بيروت عام 2002 وهم ما انفكوا يكررون ويرددون، لا سيما إثر قرار ترامب بشأن القدس، أن لا سبل أخرى يقترحونها سوى ذلك الذي يبادل الأرض بالسلام ويقيم دولة فلسطينية على حدود عام 1967 تكون عاصمتها القدس الشرقية. وحتى حين أوحت الترامبية أن النظام السياسي العربي قابلٌ بقراره مصفقٌ لصفقته، بدا أن ما صدر عن اجتماع وزراء الخارجية العرب، ومازال يصدر عن العواصم العربية، لا يمنح الإدارة الأميركية أي غطاء إقليمي يوفر للبيت الأبيض “بركة” لوِرَشه.
على هذا يتحرك الفلسطينيون، وفق إيقاعات المنطقة كما وفق غطاء الموقف الدولي، من أجل جعل “الصفقة” المفترضة مناسبة لرفع سقف الموقف الرسمي لدى المنابر الدولية. لا تملك السلطة الفلسطينية ما تخسره في هذه الأيام. يفرض ترامب إزاحة القدس عن طاولة المفاوضات، ويفرض من خلال قرار واشنطن وقف الدعم المالي لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أنروا)، إزاحة قضية اللاجئين عن نفس الطاولة، وبالتالي يشعر الفلسطينيون أن البيت الأبيض لا يزيح الملفات عن طاولة المفاوضات، بل يزيح الطاولة برمتها منكرا على الطرف الفلسطيني بعد سبعة عقود على قيام دولة إسرائيل وبعد ما يناهز 25 عاما على اتفاقات أوسلو الحق البديهي في تقرير مصيرهم ومصير كيانهم وحدود ومستقبل دولتهم.
قد يقول قائل إن الانقسام الفلسطيني الداخلي، كما الانقسام الإقليمي المحصّن لهذا الانقسام، يحرم الطرف الفلسطيني مناعة في مواجهة رياح ترامب بشأن القدس ومستقبل الدولة الفلسطينية. ومع ذلك فإن العلل الفلسطينية كما الآفات التاريخية التي تنهش بجسم المنطقة برمتها، ليست بالمعنى الموضوعي سببا لمنح المبضع الذي يشهره ترامب شرعية لتشويه ما بقي من ثوابت الحل النهائي: القدس، اللاجئون، الحدود وانخراط المنطقة برمتها بما يفترض فعلا أن يعتبر “صفقة القرن”.
يبقى أن مُسنّا فلسطينيا خَبِر المأساة منذ النكبة، مرورا بالنكسة، وعرف مراحل وعهودا ورؤساء وحروبا، لن يرى في ترامب إلا تفصيلا يمرُّ عرضيا داخل ذلك البيت الكبير في واشنطن، وأن تلك العرضية لا تملك بلغة التاريخ أدوات إزالة ما هو أصيل.