سيكون من الخطأ تماما اعتبار أن المظاهرات التي اجتاحت إيران نهاية العام الماضي، وصارت تحت قيادة النساء اليوم، تستهدف المرشد الأعلى علي خامنئي فقط. المحتجون طالبوا بإدخال إصلاحات شاملة على نظام الحكم وفلسفته. ليست هذه الإصلاحات بالضرورة اقتصادية فقط. خروج آلاف النساء اللاتي يتحدين النظام حاسرات الرأس يضفي معنى اجتماعيا وإنسانيا وثقافيا على هذه الإصلاحات المطلوبة.
ليس صحيحا أن هذه التظاهرات تدعم موقع الرئيس حسن روحاني في السلطة في مواجهة المحافظين. المشكلة تكمن في أن الإيرانيين باتوا غير مستعدين للتمييز بين محافظين وإصلاحيين.
ضرب مفهوم القداسة الذي يحيط بنظام “الولي الفقيه” يتناول كل نظام “الولي الفقيه”، لا جزءا منه فقط. الإيرانيون ليسوا في مزاج التعامل مع الحكم بانتقائية المزادات.
وجود الإصلاحيين يتطلب دورا تخريبيا للمحافظين أولا كي يكون هناك مبرر لإصلاحه. من دون ادعاء وجود هذا الدور ليس لإصلاح الإصلاحيين أي معنى. لا يعني ذلك إيمانا بالإصلاح بمعناه الإيراني بليبرالية، حتى ولو كانت مصطنعة. المسألة تتمحور حول ترك بعض البخار يتسرب عبر “مخارج إصلاحية” تجنبا للانفجار.
هذه الاستراتيجية المزدوجة، مهما ذهبت إلى أبعد نقطة في محاولة تعقيد النظام، ستعود إلى بساطتها الوجودية مرة أخرى. الاستنتاج الأخير هو أن مسألة وجود الإصلاحيين والمحافظين معا مرتبطة بمظلة “الولي الفقيه” نفسه. ليس منطقيا حصر غضب الإيرانيين في نطاق خامنئي والمتشددين فقط. إذا سقط النظام سيأخذ معه محافظيه وإصلاحييه وعسكره وباسيجه وحرسه الثوري وغير الثوري.
بساطة هذه المسألة قد تصبح أعقد من التعقيد نفسه أحيانا، على الأقل بين مؤيدي النظام والجيش الشعبي الرديف لجحافل الثوريين ورجال الدين والحرس الثوري.
فكك المتظاهرون هذه المعادلة وأرجعوها عبر هتافهم إلى طورها البدائي الأول. فهم روحاني هذه المسألة، واستوعب الرسالة أكثر من غيره. مهدي كروبي كان أكثر من نظر في روح التظاهرات ورأى ما لم يستطع غيره أن يراه.
“زعامة” كروبي نفسها أتت من رياح عاصفة شقت النظام إلى نصفين عام 2009. لكن ما نشهده هو زلزال. الفرق بين الظاهرتين المدمرتين أحيانا هو أنه يمكن إصلاح ما خربته العاصفة من منازل وجسور ومصانع وشبكات كهرباء بمجرد عبورها، وستعود الحياة بعدها إلى ما كانت عليه. لا يكون هذا ممكنا أحيانا بعد توقف الزلزال. بعض الزلازل تترك أثرا أعمق كثيرا من تدمير يطال السطح. إذا تحركت صفائح التربة تحت الأرض لا تعود مرة أخرى إلى مكانها الأول.
انتقائية “الحركة الخضراء” عام 2009 لم تصل بها إلى شيء لأنها كانت تعبيرا عن صراع قوى يعتمل داخل النظام. احتجاجات 2017 حركت صفائح المجتمع الإيراني، وتركت ندوبا في جسد النظام.
بساطة مطالب المحتجين ومباشرتها أربكتا معادلة الحكم. نيابة الله على الأرض وحكم البلد بعقلية الولاية الدينية التي لا تقبل الجدل حولا إيران إلى مؤسسة دينية كبرى ترعى شعبا ملحقا بها.
مهمة المؤسسات الدينية عادة هي نشر أفكارها ومبادئها والحفاظ عليها والتمسك بدعم كل من يدافع عنها في أي مكان. مصالح الشعب ليست هي الأولوية. فلسفة الحكم إذن تصبح، عند ربحها وقتا كافيا، ماكينة ضخمة تسحق الشعب وأحلامه وتلقي به على هامش الدولة، التي هي في هذه الحالة المؤسسة الدينية.
الاحتجاجات ضربت هذه الماكينة في عمقها، وتمكنت من إنزال منهجية الحكم في إيران إلى مستوى واقع السياسة، الذي لم يكن ليتشكل إلا عندما شعر الإيرانيون أخيرا أن الحكم في البلد قد تاه طويلا عن سياسة الواقع.
مشكلة النظام الإيراني أنه بدأ يكتشف أن الزلزال له توابع. خروج النساء للاحتجاج على فرض الحجاب لا يرتبط، كما يبدو في ظاهره، بمطلب فئوي متصل بكونهن نساء. النظام يعلم أن موقف المرأة في إيران سيكون حاسما في تحديد شكل النظام مستقبلا. هذا هو العدو الذي يخشاه خامنئي ورجال الدين وجميع كهنة هذا النظام منذ نشأته.
دولة الخميني هي دولة رجال، ويجب أن تبقى كذلك. بقاء هذه الدولة ينبغي أن ينطلق من ديناميكية حاكمة تسجن النساء، اللاتي يعتقد خامنئي ورجاله أن دورهن الجديد نسبيا في المجتمعات الغربية والأكثر انفتاحا بالأساس خطأ وشيء غير مبرر ولامنطقي. على هذا الأساس ليس مسموحا ترك مساحة لهؤلاء النسوة كي يصبح لهن رصيد يشكلن من خلاله خطرا على سجانهن.
خطورة هذه الموجة من الاحتجاجات هي أنها لا تبدو أنها تمثل خطورة، على الأقل منذ الوهلة الأولى. لا قيادة ولا أهداف سياسية مدروسة ولا طموح واضحا. في النهاية المطالبة بإسقاط الحكم لا تعني رغبة مقابلة في الاستيلاء عليه.
مفهوم حركة الشارع في إيران عبر التاريخ كان تراكميا. تحالف الدين والبازار (آيات الله والتجار) استغرق عقودا من التفاعل الصاعد والهابط كي يتمكن أخيرا من الإطاحة بنظام الشاه عام 1979. زعزعة النظام الحالي تتطلب وضع طوابق من الخبرة الاحتجاجية والعمل الثوري فوق بعضها البعض فيما يشبه تشييد مبنى ضخم. هذا يتطلب دأبا قد يستمر لأعوام.
مشكلة النظام الإيراني هو أن جزءا كبيرا من هذا المبنى تم إنجازه بالفعل. البداية كانت عبر تظاهرات الطلبة في الجامعات لدعم الرئيس الأسبق محمد خاتمي عام 1999. تكررت هذه التظاهرات خلال عامي 2002 و2003، لكنها انحسرت فقط داخل أسوار الجامعة، وبين فئة عمرية محدودة.
“الحركة الخضراء” عام 2009 مثلت مخرجا لنفس هؤلاء الطلبة، الذين كانوا قد تخرجوا من الجامعة واكتسبوا بعضا من نضج وخبرة بحلول هذا الوقت، إلى المجتمع وتجاوب قطاعات واسعة من الشعب الإيراني لأول مرة مع حركة إصلاحية هزت المحافظين، ومهدت لصعود روحاني في انتخابات 2013.
ثمة مفارقة حول هاتين الموجتين وهي أن هناك قيادة كانت تحركهما. احتجاجات عامي 2017 و2018 لم تكن لها قيادة. المشكلة هي أن الناس الذين شاركوا في هذه الاحتجاجات كانوا دائما يعتبرون “الولي الفقيه” قيادتهم الوحيدة. الموقف لم يكن احتجاجا، لكنه كان أشبه بانشقاق قواعد النظام عن قمته. الشعب الإيراني أراد أن يثور على “الثورة” الإيرانية.
نعم كل هذه الموجات قمعت بوحشية، لكنها أنجزت بما خططت له. لم يكن التخطيط هنا منظما، ولم يعد كونه اتفاقا وجدانيا يرسمه العقل الجمعي للجمهور، وليس أكثر من ذلك. في النهاية تمت إضافة طابق جديد إلى المبنى.
صيحات الاعتراض غير المسبوقة من قيادات النظام على سياسة خامنئي تخبئ في ثناياها بحثا معمقا عن بديل. مشكلة إيران هي أنه لا يوجد بديل، على الأقل إلى الآن. جسم النظام يخشى على نفسه من التحلل، ويقاتل لغسل نفسه ذاتيا، لكن لا يبدو أن عقله مستعد للتجاوب معه.