على عادتها أوقعت أميركا العراقية أحباءها وأعداءها العراقيين والإيرانيين في حيص بيص. فمسؤول في وزارة الدفاع يصرح بأن القوات الأميركية سوف تبدأ بسحب قواتها تدريجيا، وسيبقى بعضها لتدريب الجيش العراقي، رغم أن نائب القائد العام لحرس الثورة الإيرانية العميد حسين سلامي يعلن صراحة، بنفس الوقت، أن الجيشين السوري والعراقي يشكلان العمق الاستراتيجي لإيران التي تقول إدارة ترامب إنها إرهابية ويجب ردعها وعقابها.
ولكن مسؤولا أميركيا آخر يلطّف تصريح زميله فيطمئن العراقيين، قائلا إن القوات الأميركية لن تنسحب على الفور.
ومكتب حيدر العبادي يبشرنا بأكثر من ذلك، فيؤكد أن “القوات الأميركية المنتشرة في العراق شرعت بتنفيذ خطة لتقليص وجودها في البلاد”.
ويقول المتحدث باسم الحكومة العراقية سعد الحديثي “إن الخفض الذي يتم بالتنسيق مع الحكومة العراقية جاء نتيجة لانتهاء العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش، وبالتالي فلم يعد هناك أي مبرر لبقاء مستوى القوات الأميركية على حاله”.
وفي الحالتين، حالة بقاء بعض قوات أميركا في العراق أو رحيلها كلها، تُحرج أميركا العراقية أصدقاءها العراقيين الذين أكدوا، بزعم أنَّ لهم علاقات خاصة مع الدائرة المختصرة المحيطة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، أن الإدارة الجديدة حزمت أمرها، بجد وتصميم، وقررت التصدي لإيران في العراق.
ولم يكتفوا بالعموميات بل نشروا، بالتواريخ والأرقام والأسماء، سيناريو الحرب التي ستخوضها أميركا ترامب مع إيران في العراق ابتداء بتفليش الحشد الشعبي والميليشيات الإيرانية المتعددة الأخرى، وضبط الحدود العراقية مع دول الجوار، وبالأخص مع إيران، وقطع الجسر الذي أقامه النظام الإيراني بين طهران وشواطئ البحر المتوسط والبحر الأحمر بقوة السلاح.
إن هذه الأنباء والتصريحات المحبـطة تُسوِّدُ وجوه أولئك المروجين لمعارك المصير التي ستخوضها أميركا مع إيران في العراق لقلب الأوضاع العراقية، وإعادة تأهيل المنطقة لتكون واحة عدل وأمن وسلام.
ليس سرا من الأسرار العصية أن تكون أميركا الجديدة، كما كانت أميركا القديمة، ولا تزال، بحاجة لإيران قوية مسلحة عدوانية في المنطقة
ويبدو أنهم يعيشون في خيالات العصور الماضية، ويتوهمون بأن الرئيس الأميركي قادر على أن يفعل ما تريد، متى يريد، وأينما يريد.
والذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية يعلم، أكثر من الذي لا يعيش فيها، بأن الذي يحكم أميركا ليس الرئيس ولا الكونغرس ولا أي وزير أو سفير، رغم أهميتهم، بل يحكمها الدولار وحده لا شريك له.
وللشركات الأميركية الضخمة التي تُنتج سنويا ضريبة دخل بمئات المليارات من الدولارات وتقدمها للحكومة الفيدرالية لتمول بها نشاطاتها داخل أميركا وخارجها أهداف ومصالح ومخططات قد لا تتفق مع تخيلات الرئيس ترامب وأمانيه، إن كان صحيحا أن له أهدافا مغايرة لأهداف تلك الشركات.
وليس سرا من الأسرار العصية أن تكون أميركا الجديدة، كما كانت أميركا القديمة، ولا تزال، بحاجة لإيران قوية مسلحة عدوانية في المنطقة.
ولتفسير هذه الأحجية نسارع إلى تذكير الجميع بسر إقدام صدام حسين على طرد الخميني وولده أحمد من النجف، عام 1978، ووضعِه على الحدود العراقية الكويتية، ثم تطوع فرنسا، بمباركة أميركية بريطانية، لالتقاطه من الحدود ونقله إلى باريس، ومنحه الحرية المطلقة في العمل السياسي المعارض لإسقاط الشاه، رغم أنه حليف معتمد في المنطقة لأميركا وأوروبا، وقدمت له من التسهيلات والإعانات والحمايات، وسمحت له بأن يستقدم الخبراء والمساعدين الذين يحتاجهم من شتى أرجاء العالم.
والسر الآخر الذي يحتاج إلى بلاغ مبين هو سر خداع الشاه وترحيله من إيران، ليهبط الخميني في طهران، بعد ذلك، ويتسلم السلطة المطلقة، في نفس الوقت الذي تسلم فيه صدام السلطة المطلقة في العراق، مع ما بينهما من ثارات وأحقاد شخصية مخزونة لا يمكن أن تغفل أميركا وحلفاؤها عن استثمارها.
ومثلما احتاجت أميركا لصدام لإنهاك الخميني، فإنها احتاجت أيضا إلى الخميني لإنهاك صدام، واحتاجت لكليهما لإنهاك المنطقة.
ومن عناد كليهما غنمت الكثير من الأموال العربية والإيرانية، وخلَّصت إسرائيل من أكثر من مليون قتيل، ومليون جريح ومفقود، من المقاتلين العراقيين والإيرانيين، وأقلقت دول الخليج الغنية، وابتزت أموالها بذريعة منع إيران من احتلال العراق وتهديد أمنها.
ومع التسليم بأن الحرب المذهبية المشتعلة بين الشيعة والسنة، منذ تسلم خميني السلطة وإلى اليوم، هي نتاجُ تهور العنيديْن الدمويين، صـدام والخميني، فليست أميركا، ومعها حلفاؤها الغربيون، ببعيدة عن قدْح زنادها، أو على الأقل عن صب المزيد من زيوتها على نيران الاقتتال على الخلافة، أهي لعلي أم لأبي بكر ولعمر وعثمـان ومعاوية، وهل هي للحسين أم ليزيد.
والثابت تاريخيا أن أميركا الجمهورية، وأميركا الديمقراطية، قررت، قبل إسقاط صدام حسين بثلاث عشرة سنة، أن تمنح العراق لإيران، لكي تصبح الفزاعة التي تملأ الفراغ الذي سيتركه غياب صدام حسين في المنطقة.
ومن يعود إلى تاريخ المعارضة العراقية سيجد أن أميركا الديمقراطية، ثم أميركا الجمهورية، معا وبحماس متطابق تماما، تسللت إلى أحزاب المعارضة ومؤتمراتها، واحتضنتها وتولت الإنفاق عليها، وهي تعلم أن أحزابها وقادتها زرعٌ إيراني خالص لا تبديل لولائها الفكري والعقائدي والسياسي لولاية الفقيه، مهما حدث، وأيا كان دافعُ تكاليف “جهادها”.
كما أنها خبرت قادة تلك المعارضة وعرفت بالأدلة والبراهين أنهم جياع مال وسلطة، وأنهم وهم خارج السلطة، يتقاتل بعضهم مع بعض، ويلفق بعضهم على بعض، ويسرق بعضهم من بعض، وأن العراق، لو حكمه هؤلاء المزورون والكذابون والمختلسون، لا بد أن يصبح كما جعلوه من أول حكمهم وإلى اليوم، وسيظل، إلى أن تتحقق المعجزة ويتحرر العراق من النظام الإيراني وعلى أيدي الإيرانيين والإيرانيات وليس ذلك على الشعب الإيراني بكثير.
الثابت تاريخيا أن أميركا الجمهورية، وأميركا الديمقراطية، قررت، قبل إسقاط صدام حسين بثلاث عشرة سنة، أن تمنح العراق لإيران، لكي تصبح الفزاعة التي تملأ الفراغ الذي سيتركه غياب صدام حسين في المنطقة
ومن أول غزوها للعراق وهي تدعم هؤلاء المتخلفين الفاسدين باسم الديمقراطية، وتغمض عيونها عن كل ما فعله حزب الدعوة والميليشيات التي تعلم أنها عقارات مملوكة لإيران، من جرائم لم تتوقف الأمم المتحدة وغيرها عن إدانتها واعتبارها جرائم ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عليها.
وحين قرر باراك أوباما أن يسحب الجيوش الأميركية من العراق كان لا يجهل أن حليفته إيران ستحتله كاملا وتُلحقه بممتلكاتها، وتمحو تاريخه الحضاري العريق.
ثم ألم تلاحظوا أن ترامب الذي اتهم أوباما مرات ومرات بالتقصير والتراخي مع إيران في سوريا والعراق، قد تحاشى ومازال يتحاشى أيَّ صدام حقيقي مع إيران وميليشياتها، وهو قـادر على أن يفعل الكثير.
والظاهر، والله أعلم، أن الحاجة الأميركية لا تزال ماسة لوجود إيران قوية وعدوانية ومُوقِدة لحروب من حروب في المنطقة، على ألا تمس بسوء أيَّ عصب أميركي حقيقي في العراق ولبنان وسوريا وغيرها، وألا يُصيبَها الغرور والجنون والعقوق فتصبح خطرا على أمن إسرائيل.
والآن ماذا سيقول المبشرون بحرب أميركية ضد الوجود الإيراني في العراق، هل مازالوا مصدقين بأن ترامب يريد، أو يستطيع، أن يأمر جيوش أميركا بغزو العراق مرة ثانية، من أجل أن يطرد منه إيران، ويحرر أهله من كوابيسها وجواسيسها، لوجه الله تعالى، وحبا بسواد عيون العراقيين؟