نسعى في هذه المقالة إلى إثبات مركزية الأمة وموقعها السياسي والاجتماعي في سياسة الإمام عليّ، رضي الله عنه. كي نقرر من خلال هذه الإثباتات نظرية ولاية الأمة على نفسها، أو مقبولية المؤمنين بعبارة بعض الفقهاء؛ فالحاكم في الفقه السياسي الإسلامي يتولى الحكم عبر مسارات رسمية، وقواعد حاكمة مجمع عليها عُرْفاً وشرعاً وسياسةً، وأهمّها رضا الجماهير، ومقبولية الناس. فما كان لحاكمٍ أن يتولى أمور الأمّة بالغصبية، أو بقوة السلاح والأمر الواقع. هذا هو أصل الشرع، وكذلك أصل السياسة والتدبير، وكذلك أصل العمل في الفلسفة السياسية الحديثة. أمّا إذا حصل ذلك ولم تستطع الأُمّة مواجهته فهذا باب فقهي آخر لا مجال للحديث عنه الآن. لكننا نسعى هُنا لإثبات أصل العمل، والمبدأ والأساس الذي ينبغي أن يكون كما كان عليه الفقهاء ومن قبلهم الصحابة الذين فهموا دلالات الألفاظ النبوية والقرآنية، على أحسن ما يكون.
واخترنا شخصية الإمام عليّ، رضي الله عنه، لأن مركزية الأمة واضحة في فقهه، فبالرغم من ترشيحه من بعض مراكز القوى للخلافة بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، إلا أنه آثر الرجوع إلى الجماهير لتقرر بنفسها، ثمّ ارتضى قناعاتها.
موقع الأمة في سياسة عليّ
الإمام عليّ كان يرى نفسه الأحقّ بالخلافة بعد النبيّ، صلى الله عليه وسلم[1]، ومع ذلك فقد نزل على إرادة الناس، ليرسخ مفهوم مقبولية المؤمنين وولاية الأمة على نفسها، وأنّ الحاكم لا يمكن أن يتولى بغير رغبة الجماهير. فبايع أبا بكر، ثمّ عمر، ثمّ ارتضى أن يكون واحداً ضمن مجموعة مرشحين تختار منهم الأُمّةُ واحداً، فلمّا اختارت الأمّة عثمان نزل كذلك على رأي الأُمّة كي لا يشق صفها، ويكون هو أول الخارجين على الدولة وأول المشرعنين لوأد القواعد الحاكمة، فيؤول الأمر إلى السيف والسلاح والقوة لا إلى الناس والقواعد الحاكمة، ومن ثمّ يؤول الأمر إلى الهرج والمرج أي الفتنة بتعبير الفقهاء. وكي نبين الأمر أكثر نطرح سؤالاً: هل كان الإمام عليّ يرى نفسه الأحقّ بالخلافة بعد وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: نعم، كان يرى نفسه الأقدر على تحريك السفينة الكبيرة بعد وفاة النبيّ وكذلك كان غير واحد من الأنصار والمهاجرين يرى نفسه الأحقّ بالخلافة بعد وفاة النبيّ، صلى الله عليه وسلم، مثل سعد بن عبادة وغيره. إذن: ما الحل في هذه الظروف؟ هناك مراكز قوى، وتكتلات، وجيوب، كلٌّ منها يرى أحقيته بالخلافة؟ وهناك ظهير شعبي وراء كل مركز من تلك المراكز؟! الحلّ هو إيجاد قواعد حاكمة، وأرضيات مشتركة يتحاكم إليها الجميع وينزلون عليها، مرجحين التبعية لها على التبعية لشخوصهم وطموحاتهم السياسية. لأنّ البديل العقلي هو اصطدام تلك المراكز والكتل وظهيرها الشعبي بعضها ببعض، كما حصل لاحقاً عندما غُيّبت القواعد الحاكمة، فتم تخليق قواعد حاكمة جديدة ليست مبنية على التقاطعات والمشتركات الفكرية والأيدلوجية والثقافية والحضارية، بل مبنية على القوة وثقافة الغاب. فانبثقت فكرة الأمة والتحاكم إلى الأمة، فالأمّة هي التي تبايع، والأمة هي التي تُنصّب الأمير، والخليفة، والرئيس، والأُمّة كذلك هي التي تعزل. فبايعت الأُمّة بعد شدّ وجذب وأخذ وردّ ومناقشات متباينة، ووجهات نظر متعارضة، بايعت أبا بكر، رضي الله عنه. وهنا ترسخت فكرة الرجوع إلى الأمّة كحلّ لمشكلات الفراغ السياسي، وكحلٍّ أوحدٍ لترجيح كفاءة على أُخرى.
ولكن ينبثق سؤال آخر: كيف بايعت الأمّة كلّها أبا بكر؟ الطبيعة القبلية والعشائرية وقتئذ كانت تُعنى برؤوس القبائل والعشائر، الذي إذا قال أُطيع، وإذا دعا أُجيب، ومن ثمّ فقد تمثلت نيابةُ الأمة وقتئذ في المهاجرين والأنصار – كما سيأتي من كلام أبي سفيان لعليّ – على أنه لو أُتيحت ظروف وقتئذ تسمح بأخذ رأي الأمّة كلها ما تردد القوم في ذلك. وقد لمح الإمام عليّ، رضي الله عنه، إلى هذا المعنى فقال: «ولعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عامة الناس، فما إلى ذلك من سبيل، ولكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار»[2].
وفي عبارة الإمام عليّ تلك: يبين استحالة اجتماع الناس كلهم بآليات عصره وإمكاناته، للانتخاب والبيعة، وأنه لو أمكن ذلك ما تردد، فآل الأمر إلى اعتبار الحاضرين من رؤوس القوم نُوّاباً عن الآخرين. فالأمر أقرب إلى النظام البرلماني/ أهل الحل والعقد. وأهل الحل والعقد في ذلك الزمن كانوا هم المهاجرين والأنصار، ممن شهدوا بدراً وشهدوا الغزوات كلها مع الرسول، صلى الله عليه وسلّم، لأنهم حينذاك أئمة الإسلام ورؤوس الأنام. فيقول الإمام عليّ: «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضا»[3]. وقد حاول البعض مبايعة عليّ بعد وفاة النبيّ، صلى الله عليه وسلم، إلا أنه رفض، ولمّا ذهب أبو سفيان وهو زعيم قريش وقتئذ إلى عليّ بن أبي طالب يحرضه ضد أبي بكر قائلاً: “أرضيتم يا بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم؟! امدد يدك أبايعك فلأملأنها خيلا ورجلا». وأيده العباس بن عبد المطلب الذي قال لعليّ: «امدد يدك أبايعك وآتيك بهذا الشيخ من قريش –يعني أبا سفيان- فيقال: عم رسول الله بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك من قريش اثنان، والناس تبع لقريش». فرفض الإمام عليّ الاستجابة لهما[4]. لأنه يرى مركزية الأمة، ويشترط مقبوليتها، ورضاها التام، ولا يؤمن بسياسة فرض الأمر الواقع، أو الاستئثار والإقصاء لمراكز القوى الأخرى، حتى ولو جاء على حساب رغباته وطموحاته ومشروعه السياسي، والإصلاحي[5]. وتعاون مع السلطة القائمة التي انتخبها الناس، بزعامة أبي بكر، رضي الله عنه([6]».
وبعد مقتل عثمان رضي الله عنه رفض عليّ مبايعة بعض الناس له أيضاً، وقال: «إن بيعتي لا تكون خفياً ولا تكون إلا عن رضا الناس»[7]. وهذا دليل تام على موقع الأمة في الفكر السياسي للصحابة، وأنّ ما قيل بعد ذلك من صحة البيعة بواحد واثنين وما أشبه هو كلام لا يمتّ للواقع بصلة، وغير قابل للتطبيق إلا في حالة واحدة، وهي شرعنة حكم العصابات المسلحة المتغلبة، التي تقفز على إرادة الناس، واختياراتهم وقناعاتهم، اللهم إلا إذا فُهم أن الواحد والاثنين والثلاثة هم رؤوس القبائل وعلية القوم ممن يُستجاب لهم، ويُسمع، فاعتُبرت موافقتهم إقراراً من أتباعهم ومن دونهم، وهذا بطبيعة الحال خاصّ بزمانهم دون زماننا، الذي توفت فيه الآليات ليشارك الجميع في الحكم وصناعة القرار.
ولمّا اجتمع الناس وبايعوا عليًّا، وبايعه من بايع أبا بكر وعمر وعثمان، فحصلت المقبولية العامة لدى المؤمنين، قال: «بايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين بل طائعين مخيرين»[8]. وقد تخلف بعض الصحابة عن البيعة لأن رأيهم السياسي لم يكن في انتخابِ عليّ، رضي الله عنه، بل ارتأوا انتخاب غيره. فلم يكرههم أحدٌ على البيعة، وفي هذا احترام الدولة للاختلاف السياسي، وللتوجهات السياسية المختلفة، ولأحزاب المعارضة، وهذا تأسيس مهم لقواعد حاكمة ومرجعيات تأسيسية وتأطيرية للتعامل مع الخلاف السياسي.
نرى من فلسفة الإمام عليّ تركيزه الشديد على مركزية الأمة في اختيار حاكمها، فالعلاقة بين الحاكم والمحكوم في نظرية عليّ هي عقد وكالة، فمتى شاءت الأمة سحبت توكيلها، ومتى أرادت وكلت من تشاء! وقد تولى عليّ، رضي الله، عنه بإرادة الأمة، وعمل على ترسيخ تلك الفلسفة حتى وهو في سكرات موته، فجاءه القوم وقالوا له: «يا أمير المؤمنين أرأيت إن فقدناك، ولا نفقدك، أنبايع الحسن؟ قال: لا آمركم ولا أنهاكم، وأنتم أبصر»[9]. وتلك عبارة تبين مدى عناية الإمام عليّ بموقع الأمة ومكانتها السياسية. فهي التي تولي حاكمها وهي التي تختار من تشاء.
ولم يكتف الإمام عليّ بترسيخ مكانة الأمة في اختيار الحاكم، بل مأسس لرقابة الأمة على الحاكم أثناء حكمه، فعندما طالب الناس في مصر بعزل قيس بن سعد رغم حب الإمام عليّ له، قام بعزله وعين محمد بن أبي بكر خلفا له. وفي صفين نزل على رأي الأغلبية في إيقاف الحرب رغم أن رأيه كان في استمرارها حتى النصر. وأثبتت الأحداث صحة موقفه، وجزالة رأيه، بيد أنه أعطى دروساً في احترام رأي الأغلبية، وترسيخ إلزامية الشورى كي يتأسى به الآخرون. فلا توجد حادثة واحدة نقلت عن الإمام عليّ أنه انفرد برأيّ سياسي دون الأمة ودون المشورة الملزمة له.
فلسفة عليّ بين السنة والشيعة
وتلك النصوص التي نقلناها آنفا وهي قطعية الدلالة على مركزية الأمة وحقها في الاختيار، إلا أنّ كثيراً من فقهاء الشيعة لم يلتفتوا إليها وجعلوا الأمة محكومة بالوصية، وبعد نفاد نظرية الوصية بموت الإمام الحادي عشر أو اختفاء ابنه محمد، انتقلت الفلسفة إلى نيابة المعصوم، فيصير الفقيه نائباً عن الإمام المعصوم. المهم: ألا يكون للأمة دور، فالعوام جهلاء ليس من حقهم اختيار حاكمهم فضلا عن مشاركتهم في أمور السياسة وصناعة القرار، لأنهم رعاع، مغيبون، تدور عليهم الأحكام لا بهم، فالله هو الذي يختار الحاكم لا الناس[10].
لكن تلك الفلسفة – فلسفة إقصاء الأمة – تحولت وتغيرت وبدأت تتآكل تحت وطأة نظرية «ضغط التيار الاجتماعي»[11]، فظهرت نظريات أخرى من داخل المذهب الشيعي نفسه تعود إلى أصالة مقولات الإمام علي، تحترم الأمة، وتمنحها المكانة اللائقة، كما فعل الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة. الذي غير مسارات النظرية السياسية الشيعية. وهو أقرب إلى طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي، بل لقد تأثر مباشرة بالأفغاني والكواكبي –حسب توفيق السيف وعبد الجبار الرفاعي وغيرهما – وغير منظومة الفقه السياسي الشيعي بكليته. بيد أنه هناك وجد أنصاراً من رجال الدين، لكن الكواكبي هنا سرعان ما خفت وانطوى في حيز النسيان، دون تفعيل لمقولاته ونظريته. وما زالت رؤوس إصلاحية تحاول الرجوع إلى الجمهور كفيصل وحكم وحيد في أي خلاف سياسي. مثل محسن كديور والفيلسوف عبد الكريم سُرُوْش، والشيخ يوسف الصانعي.
والمعروف المشهور أنّ الحكم عند السنة بالاختيار والانتخاب والشورى، بيد أن هذا كان تنظيراً محضاً، في كثير من فترات التاريخ. فتمّ تجاهل إرادة الأمة في أحايين كثيرة، ومن ثمّ حاول بعض الفقهاء تكييف الدين مع الواقع، وليس العكس، أي تم سحب الدين للواقع، ولم تتم دعوة الواقع ليتكيف مع الدين. فإرادة الأمة جزء لا يتجزأ من جوهر الدين. ومن جوهر العملية السياسية الحديثة. فلا سياسة بدون جمهور، ويحكم السياسيون على موت العملية السياسية عندما يتغيب الجمهور عن عمد، ويتم إقصاؤه من حيز صناعة القرار، وتحديد المصير.
لكن ظهر أيضاً فلاسفةٌ وفقهاءٌ كبار أعطوا للأمة مكانتها، وجددوا في الفقه السياسي الإسلامي بما يتلاءم مع آليات العصر، منذ ظهور الأفغاني وتلميذه محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا، ثم مدرسة ضياء الريس وحامد ربيع، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ أبو زهرة. وصارت الأمّة هي الحَكم والمرجع عند تلك المدارس الفقهية والسياسية، وصار الرجوع إليها من البديهيات في الفقه السني المعتبر، وفي السياسة الراشدة، حتى اليوم. بيد أنّ تفعيل تلك النظرية، وتطبيقها بطبيعة الحال لا يكون بأيدي الفقهاء بل بيد السلطة التنفيذية، وثمة فجوة حصلت بين الفقهاء والحاكم منذ أمدٍ بعيد، مع أنّ الأمر أصالة معقودٌ للفقهاء كما يقرر الجويني، وليس مجال توضيح هذا التحول وكيفية حدوثه في تلك السطور، هذا علاوة على إبراز السلطات السياسية للخطاب الديني الراديكالي الإقصائي الذي يتوعد الشعوب ويهدد بالويل والثبور، ومن ثمّ تعطي وتُصدّر بديلا غير أخلاقي لوجودها، فتختار الجماهير بين أسوأ وسيء، ظاهرياً، فترضى بالأمر الواقع.
الخلاصة
أنّ الإمام عليّ، رضي الله عنه، كان يرى أنّ الحاكم بشر، ويستمدّ شرعية حكمه من الناس والجماهير، ومن حقهم تنصيبه ومن حقهم عزله. ورفض الإمام علي المصادرة على حق الناس في الاختيار، ونزل على رأي الأغلبية ترسيخاً لمركزية الـأمة ومقبولية المؤمنين، وإعمالاً للقواعد الحاكمة في أوقات الخلاف والفراغ السياسي.
وبعد؛ فإنّ الفقه السياسي الإسلامي مليئ بالدرر، والكنوز، بيد أننا توقفنا عن الرجوع إلى المصادر الأولى لملاكات الأفعال السياسية في العهد الأول، والتفرقة بين قطعياتها وظنياتها، وثوابتها ومتغيراتها، وأدمنا النظر في ما كتبه فقهاء في عصر معين وفي ظروف معينة، وسياقات خاصة، على أنّ كلامهم ليس بحجة، فإذا كان الأصوليون قرروا أنّ فعل الصحابيّ ليس بحجة، فمن باب أولى تقريرات الفقيه العرفية والزمانية ليست بحجة على سياسة عصرنا وتدبير شئون الدول المعاصرة. فليس لمحدَثٍ إذن أن يدندن بفقه الحاكم الأوحد، وأمير المؤمنين، ويُنحي الأمّة من خياراته وقناعاته الفقهية. وأن واجب الوقت لعلماء الفقه السياسي والسياسة الشرعية أنْ يقوموا بمأسسة نظريات الفقه السياسي وقولبتها في لغة العصر، والاستمرار في الاجتهاد الفقهي السياسي حتى يحصل نوعٌ من النضوج، ومن ثمّ تتشربه الجماهير ثقافيا وتوعويا وتربويا، فتدرك حقوقها السياسية، وما لها وما عليها، من خلال نموذج حضاري نابع من ثقافتنا وهويتنا، وأصولنا وقواعدنا، وبيئتنا.
(محمد الصياد - إضاءات)