ربّما دخلنا الحقبة الأشدّ سواداً في المشرق العربيّ. انتفى، أو يكاد، التوفيق بين حرّيتين: حرّية الوطن وحرّيّة جماعة من جماعاته.
من قبل، تردّدت نظريّة تقول إنّ حرّيّة الوطن مقدّمة وشرط لحرّيّة جماعاته الإثنيّة والقوميّة. كذلك تردّدت، ولو على نطاق أضيق، نظريّة تقول العكس. في النظريّتين هناك همٌّ تركيبيّ وإن رافقه اختلاف في تقرير الأولويّات.
اليوم صارت النظريّتان أشبه بالفقه الميّت. لا هذه ممكنة ولا تلك، أي لا هذه صحيحة ولا تلك.
حرب عفرين وتداعياتها بالغة الدلالة على هذا الصعيد. فمع الأشهر الأولى للثورة السوريّة، احتلّت النظريّتان حيّزين استطاعا أن يتعايشا، على رغم شيء من التوتّر بينهما. الآن، مع الصدام الواضح والصريح، وربّما الكامل، بين القائلين بحرّيّة الأكراد السوريّين والقائلين بحرّيّة سوريّة، يبدو أنّ التعايش انتهى. الأمر نفسه يصحّ على الجبهة العربيّة– الكرديّة في العراق.
بطبيعة الحال تغيّر الفاعلون والناطقون بلسان القضايا، فيما عمل تنامي العنف على تعزيز الصوت الأكثر تطرّفاً وتشنّجاً في الأطراف المعنيّة. مع ذلك، كانت مقدّمات الافتراق قائمة من قبل. هكذا ظهر من ينتبه وينبّه، ومن يتذكّر ويذكّر: في 2004 انتفض الأكراد في القامشلي وتُركوا لمصيرهم. «العمّال الكردستاني» استعرض جثث مقاتلين عرب في عفرين. «الجيش السوريّ الحرّ» قتل بارين كوباني وعبث بجثّتها... هناك من ذهب أبعد في التذكّر والتذكير فلم يعد من زيارته للتاريخ إلاّ بمزيد من المرارة.
لقد اكتمل تحالف الواقع والماضي ضدّ المستقبل.
هناك شكل آخر أشدّ مداورة، وأقدم عهداً، نلقاه في العراق ولبنان عن تضارب الحرّيّتين، حرّيّة الوطن وحرّيّة الجماعة الدينيّة. في العراق، نجد وطنيّة عراقيّة بمواصفات شيعيّة ووطنيّة عراقيّة بمواصفات سنّيّة. في لبنان أيضاً، هناك لبنانيّة للسنّة وأخرى للشيعة وثالثة للمسيحيّين. اللبنانيّة المسيحيّة، مثلاً، تؤكّد أنّ اللبنانيّة «انفتاح على العالم أوّلاً»، أمّا السنّيّة فتؤكّد أنّها «انفتاح على العرب أوّلاً»، فيما تذهب الشيعيّة إلى أنّها «مقاومة» أوّلاً وأخيراً. شيء من هذا القبيل يفصل العراقيّة السنّيّة عن تلك الشيعيّة.
وقد يكون من السهل أن نقول إنّ هذه الأوطان صارت كعِظام الكلاب المرميّة في الوادي. وأن نتصرّف على هذا النحو. لكنْ ماذا بعد؟ وهل هناك بَعد؟
تجربة أكراد العراق تنبّه إلى الصعوبة التي تقارب الاستحالة. تجربة أكراد سوريّة قد تنتهي بنا وبهم إلى خلاصة مشابهة. مسيحيّو المنطقة ليسوا في وضع يُحسدون عليه. التجارب الشبيهة في الجوار لا تشجّع: جنوبيّو السودان يتخبّطون بنزاعاتهم القاتلة. جنوبيّو اليمن يحاولون أن يبدأوا وسط غابة التعقيدات الإقليميّة...
وربّما كان اسم اللحظة السوداء الراهنة أنّ حرّيّات الدول لا تعمل، فيما حرّيّات الجماعات، الإثنيّة منها والدينيّة، لا تعمل أيضاً. والعالم، بدوره، لم يعد معنيّاً بأن يساعدنا دولاً ولا بأن يساعدنا جماعات.
ألا يوفّر هذا الانسداد الباعث على اليأس منظوراً آخر في النظر إلى ظاهرة «داعش» وما قد يماثلها من ظاهرات؟