قامت الدنيا وقعدت على تسريب لا جديد فيه الا الشخص المُستهدف. لعل السبب هو رغبة حقيقية في التغيير حتى لا تملّ شعوب الشوارع اللبنانية، ولا سيما بعدما خفتت نغمة الإرهاب وتكاد تخمد نارها، وبعدما صار الفساد شعاراً اصلاحياً بامتياز، والفضائح التي تفتك ويلاتها بالمواطنين لا تهزّ بدنهم مهما طنطنت بها وسائل الاعلام او مؤسسات المجتمع المدني. لذا كان لا بد من "عرض أول" يفتتح به الموسم الانتخابي لكسر السياق وإنتاج الادرينالين المسلح، وفق ما يتطلبه التسويق وفنونه.
غنيّ عن التذكير بأن استهداف السياسيين للسياسيين، وتحديداً من يثير التعرض لهم حساسيات وأزمات، كلّه فوائد وجاذبيته اكثر من اكتشاف السموم في الطعام والدواء.
حتى ان البعض يعتبر هذه الاثارة من صميم الفولكلور الساري مفعوله منذ ما بعد الطائف، سواء تطبيقاً لمبدأ "فرِّق تسد"، او تأديباً لمن نسي حدوده فتجاوزها، لذا كان يجب ان يُشتم حتى يرعوي ويقبل بتكسير رأسه والا يتم اغتياله، او بكل بساطة خدمةً للمندوب السامي الذي لم يكن يطيب له أي توافق بين اركان الحكم وإن كان في سياق اجندته، ليواصل تدخله المستمر في زواريب الإدارة والسياسة وليمسك بخيوط من نصَّبهم أولياء امورنا فيحركهم وفق اهوائه ومصالحه.
بعد العام 2005 شهدنا استهدافات متجددة الأداء بصيغ متنقلة تشبه الحواجز الطيارة لإلغاء مفاعيل المرحلة الجديدة الواعدة. وأبدعت مخيلة زعماء الطوائف في تحريك شوارعهم بشتائم وتلفيقات من هنا واستفزاز واثارة للنعرات من هناك، واعتصام او اعتداء من هنالك، وتفجيرات، وصولاً الى الاغتيالات، والختام كان دائماً حفلة مبتذلة يصار خلالها الى عناق وتبويس لحى وتقاسم بقرة الدولة الحلوب.
يبقى ان المشهد كله "Déjà vu" وإن تغيرت التسديدات والاتجاهات. فما حصل وسيحصل، يعكس وسخ الطبقة السياسية اللبنانية التي لا تقوم الا على استغلال الناس لمزيد من السلطة والنفوذ، ومن كان مجده ينحصر في هيمنته على شارعه وقطعة سلاح وزجاج "مفيّم" لسيارته، هو مادة جيدة للاستغلال ويستحق كل ما يصيبه.
باختصار، سيبقى الوضع على حاله ما دامت عبارة "لبنان بكل طوائفه" تحضر في كل مناسبة اجتماعية او ثقافية او رياضية او سياسية او اقتصادية، وسيبقى كل شارع متمسكاً بكربلائه وصليبه ومظلوميته وأجنحته المكسورة او انتفاخه وتعاليه وتفاخره بفائض القوة والنفوذ والسلطة وسلاحه غير الشرعي الذي ظهر، ولم يظهر معه من يسأل عن الأمن والسيادة واحترام هيبة الدولة.
فالهيبة صارت في خبر كان، وجثتها أكلتها الغربان. وهي لا تنزعج ممن ينتمون فعلاً وقولاً الى شوارعهم. اما من لا يحضنه شارع، فينام في النظارة اذا فتح فاه او فتح وسيلة تواصل اجتماعي ليفش خلقه.
ومن لا يعجبه فليرحل، مع ان زعماء طوائفنا لا يتركونه بسلام، فقد وصلت انشطتهم الى دنيا الاغتراب. ومن لا يشتري فليتفرج.
مع مزيد من صناديق الفرجة التي لا همّ لها الا خدمة صناديق الاقتراع لمن لم ينجح في دخول جنة البرلمان حتى تاريخه، علينا ان نعترف بأن لا شجرة مباركة في هذا النسيج المسموم بين الرعيان والرعية، الذي يتفاعل ويتناسل ويقضي على أي احتمال بوجود مواطنين يحاسبون ويرفضون استخدامهم كجزء من عدّة الشغل، فقط لمزيد من المكاسب الفردية لمن نصّب نفسه زعيماً عليهم وقبلوا بتنصيبه ونصبه.
العلة في الناس اكثر مما هي في مَن يتاجر بهم. يكفيهم ان ينزلوا الى الشوارع صوناً لـ"كرامة الزعيم" وليس للحصول على مستوى لائق من مقومات الحياة الطبيعية.
الأولوية لتكسير رأس من يقترب قيد انملة من شارعنا. المطلوب ترسيم الحدود ليلعب كل شعب في شارعه، والا القتال والسلاح غير الشرعي جاهز ومحمي.
فشعوب الشوارع لا همّ لها الا تجديد المبايعة. ولأن أصل اللعبة السياسية عاطل بوجود غرائزية تفلش قرفها وتهدد وتتوعد في كل الشوارع والزواريب المذهبية، يصبح مألوفاً مسح المواقف السابقة واطفاء محركات التصعيد التي رافقتها. فمن ضرب ضرب، ومن هرب هرب، وكلّ انتفاضة على التسويات والتفاهمات القائمة ممكنة في الزمن الانتخابي، ما دام الشارع يلبّيها، ولا بأس بالانعطاف لإعادة التموضع وتشكيل جبهة جديدة من قوى تصرّ على تعريف نفسها بالسيادية، ولا تجد حرجاً في نقل البندقية من كتف الى كتف.
ثم ان لحظة الإعلان ليست مستغربة، إن بهدف زيادة الأصوات في الآتي القريب، او بهدف تأمين رضى المتحكمين بالاستحقاقات الكبرى في الآتي الأبعد، على اعتبار ان الخطاب يجب ان يتوافق والمواصفات المطلوبة، والعمر غفلة، ولا بد من استغلال كل فرصة سانحة.
المهم الاستمرار في الكذب ما دام هناك من يوالي الكاذب والمجرم والسارق والفاسد، ويعادي من عاداه، ولا يرضى ان يمس احدهم شعرة من رأس زعيمه، لكنه لا يكثرت لأن هذا الزعيم حوَّل لبنان الى بلد فاشل يوماً بعد يوم وعاماً بعد عام وعقداً بعد عقد.
اللهم لا شماتة، لكن الظاهر ان آخرة الانتفاخ فرقعة. ولكلٍّ دوره في الفرقعة ما دامت المعادلات قابلة للتقولب بليونة البهلوان. فالاستهداف الحالي للمُستهدف الحالي مطلوب في سوق التسويق الغرائزي. ويأتي بمفاعيل عجائيبة على ما يبدو. ولا يهمّ أي معادلة ستركب بعد أن يؤدي مبتغاه. المهم ان شعوب الشوارع تستنفر غب الطلب. ويا دار ما دخلك الا الشر.