ليس الكلام الصادر عن علي أكبر ولايتي مستشار “المرشد” علي خامنئي في “الجمهورية الإسلامية في إيران” سوى دليل آخر على الهروب المستمرّ إلى أمام، في وقت يواجه النظام الذي أقامه آية الله الخميني أزمة عميقة. يمكن حتّى الكلام عن أزمة بنيوية تعتبر الأخطر منذ سقوط نظام الشاه في مثل هذه الأيّام من العام 1979، أي قبل تسعة وثلاثين عاما.
لا يدلّ على مدى هرب ولايتي، الذي ليس سوى مرشح فاشل في الانتخابات الرئاسية، من الواقع أكثر من تلك الأوهام التي يسعى إلى الترويج لها. على سبيل المثال وليس الحصر، قال مستشار “المرشد” أمام “المؤتمر الجامعي دعما لانتفاضة فلسطين” الذي انعقد في طهران أخيرا أن دعم بلاده لـ“محور المقاومة” ساهم في “شل الكيان الصهيوني في اعتداءاته على غزة ولبنان”، مشيرا إلى أن “حزب الله بات اليوم في وضع يتهرب ساسة الكيان الصهيوني من مواجهته، على غرار ما حصل في حرب تمّوز (صيف العام 2006)”.
هل يضحك المرء أو يبكي عند قراءة كلام ولايتي الذي سبق له أن كان وزيرا للخارجية؟ الأكيد أن على المرء أن يبكي على لبنان الذي يعاني من حال البؤس لم يشهد لها مثيلا، حتّى إبان الحرب الأهلية التي امتدّت حتّى العام 1990، أي إلى ما بعد سنة من توقيع اتفاق الطائف. ما فعلته إيران في لبنان، عبر تحويل “حزب الله” إلى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، يتجاوز الجريمة في حقّ البلد الذي كان على طريق التعافي في مرحلة معيّنة، وصولا إلى اغتيال رفيق الحريري في مثل هذه الأيّام من العام 2005.
هل يريد المرشح الرئاسي الإيراني الفاشل تذكير اللبنانيين باغتيال رفيق الحريري الذي أعـاد الحياة إلى بيروت، وأعاد وضع لبنان على خريطة الشرق الأوسط؟ أو هل يريد في مثل هذه الأيام التركيز على نفوذ إيران وقدرتها على تدمير مؤسّسات الدولة اللبنانية الواحدة تلو الأخرى، على نحو ممنهج، بعدما زال كلّ سرّ يتعلّق بالجهة التي فجرت موكب رئيس الوزراء اللبناني السابق في ذلك اليوم المشؤوم؟
الأكيد أيضا أنّ على المرء أن يبكي على غزّة عندما يسمع ولايتي يتحدّث عنها. ما الذي فعلته إيران لغزّة التي تشير تقارير الأمم المتحدة إلى أنها في حال يرثى لها. هناك حال انهيار على كل المستويات في غزّة التي لا تعاني من الحصار الإسرائيلي فحسب، بل من نتائج فوضى السلاح التي أسست لها حركة “حماس”، بدعم إيراني مباشر.
ما تحصده غزّة اليوم، بفضل دعم إيران وغير إيران، هو من نتائج انقلاب منتصف العام 2007. أرادت حركة “حماس” وقتذاك تأسيس “إمارة إسلامية” في القطاع كي تعطي مثلا على ما يستطيع الإخوان المسلمون تقديمه إلى العالم العربي. كانت النتيجة كارثة إنسانية ليس بعدها كارثة وحصارا ليس من يريد رفعه عن شعب مظلوم يعيش من دون كهرباء أو ماء، فيما أزمة الصرف الصحّي تهدّد بانتشار الأوبئة. هل هكذا تكون الانتصارات على إسرائيل؟
يصبّ كل ما أدى إليه الدعم الإيراني لغزة في تكريس الانقسام الفلسطيني في ظل سلطة وطنية مترهّلة وغير راغبة أصلا في إعادة الربط بين غزّة والضفّة الغربية، نظرا إلى أنّها لا تجد لها مصلحة في ذلك، خصوصا في ظلّ تدهور الأوضاع في القطاع.
نعم، إيران لاعب في المنطقة. يمكن تصديق ولايتي في كلّ ما يقوله في هذا الشأن، خصوصا عندما يشدد في تحديه للضغوط الأميركية على “أن نفوذ إيران في المنطقة حتمي وكي تظل لاعبا أساسيا في المنطقة سيستمرّ هـذا النفوذ”، مضيفا “إيـران هي قلب التطورات الدولية. أميركا تريد تمزيق الشرق الأوسط… إيران تعارض ذلك”.
قبل كل شيء، يبدو ولايتي على حق عندما يقول إن أميركا تريد تمزيق الشرق الأوسط. من يريد تمزيق الشرق الأوسط يُقْدم بالفعل على ما أقدمت عليه أميركا التي سلّمت العراق على صحن من فضّة إلى إيران في العام 2003 في عهد جورج بوش الابن. ومن يريد تمزيق الشرق الأوسط ينسحب عسكريا من العراق، كما فعلت أميركا في عهد باراك أوباما في العام 2010 واستسلمت للرغبة الإيرانية في أن يكون نوري المالكي رئيسا للوزراء.
كل ما فعله أوباما من أجل تمزيق المنطقة كان يتجاوب مع الرغبات والتطلعات الإيرانية بدءا بغض النظر عن نشاطات “حزب الله” إرضاء لرغبات طهران. نفّذت إدارة أوباما كل ما طلبته إيران منها كي تضمن التوصل إلى اتفاق في شأن ملفها النووي صيف العام 2015. وقَعت أميركا، عن سابق تصوّر وتصميم، في الفخّ الإيراني بعدما اختزل باراك أوباما كلّ أزمات الشرق الأوسط بالملفّ النووي. صار في استطاعة إيران أن تسرح وتمرح في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأن تهدّد البحرين بواسطة ميليشياتها المذهبية التي فجّرت الصراع المذهبي في كلّ المنطقة.
باختصار، لعبت إيران الدور الأساسي في تمزيق المنطقة بعدما تحوّلت إلى المستفيد الأوّل من السياسات الأميركية في عهدي بوش الابن وباراك أوباما. كان هناك في كلّ وقت تفاهمات أميركية – إيرانية لم تكن إسرائيل بعيدة عنها في أيّ وقت. امتنعت الإدارة الأميركية عن توجيه ضربة إلى النظام السوري صيف العام 2013 عندما استخدم بشّار الأسد السلاح الكيميائي في الحرب التي يشنّها على شعبه متجاوزا كل الخطوط الحمر التي رسمها له باراك أوباما. هل هناك ما هو أفضل من هذا التوجّه الأميركي بالنسبة إلى إسرائيل، ما دام بقاء بشّار الأسد في دمشق يساهم إلى حد كبير في تفتيت سوريا؟
يُفترض في ولايتي عدم الشكوى من الحليف الأميركي غير المعلن. ربّما كانت شكواه من احتمال حصول تغيير في الموقف الأميركي في عهد دونالد ترامب الذي بدأ يشكو مما يجب بالفعل الشكوى منه، أي من الصواريخ الإيرانية ومن المشروع التوسعي في المنطقة الذي يدار من طهران. هذا تغيير أميركي لم يتحقّق بعد. لكنّ التغيير الذي تحقّق هو بداية التحرك الشعبي داخل إيران نفسها حيث بدأ مستشار “المرشد” يشكو من ترديد المواطن العادي الذي انتفض في أكثر من ستين بلدة ومدينة إيرانية شعارات من نوع “دعونا من فلسطين” و“اتركوا سوريا وفكروا فينا” و“لا غزّة ولا لبنان”.
هذا هو الخوف الحقيقي الذي يعاني منه “المرشد” وكلّ المحيطين به. وهو ما حمل رئيس الجمهورية حسن روحاني على التحذير من أمام ضريح الخميني من أن الزعماء الإيرانيين سيواجهون مصير الشاه إذا تجاهلوا الاستياء الشعبي. صحيح أن روحاني أكّد أيضا في خطاب ألقاه حديثا من أمام الضريح أنّ الشعب سيحارب من أجل الحفاظ على “الجمهورية الإسلامية” إلى الأبد. لكنّ الصحيح أيضا أنّ ليـس في الإمكان الاستمرار في الهروب إلى أمام إلى الأبد.
لم يلبّ النظام الإيراني الذي تحوّل أكثر من أيّ وقت إلى أسير عائدات النفط والغاز أيّا من الشعـارات التي رفعها الخميني قبل انتصاره على الشاه وبعد ذلك. هذا كلّ ما في الأمر. إيران استخدمت أميركا… وأميركا استخدمت إيران من أجل تمزيق المنطقة. هل يوحي كلام روحاني، الذي كان جزءا من اللعبة الأميركية – الإيرانية، بأنّ هذه اللعبة شارفت على نهايتها؟