ما تظاهر بالرضا من نتائج مؤتمر سوتشي غير روسيا وتركيا. وظلت إيران صامتة، وتكأكأ النظام السوري دونما استحسانٍ أو استهجان، ثم سارع لاتخاذ موقفٍ عنيفٍ ضد الهجمة التركية على عفرين، بعد أن كان قد اتهم الأكراد بالخيانة! أما الأكراد الذين اعتبروا أنّ الروس «خانوهم» وأنّ الأميركان تخلّوا عنهم، فقد طالبوا النظام بالتدخل للدفاع عن السيادة!
أردوغان الذي يهدد من زمان بالتدخل حتى لا تظهر دولةٌ كرديةٌ على حدوده، حصل على الموافقة الروسية، بعد أن اعتبر هو والروس أن الإعلان الأميركي عن تدريب قوة كردية من ثلاثين ألفاً، يعني دعماً من جانبهم للمطامح الكردية في شمال وشرق سوريا، أي على طول الحدود التركية السورية. وما اتفق معه المراقبون الأميركيون والأوروبيون في البداية، إذ تصوروا أن هذه القوة تعني أنّ الأميركيين سينسحبون بعد سقوط «داعش» وتهديداته. وبخاصةٍ أنّ العسكريين الأميركيين صرَّحوا بأنّ المقصود بالقوة الجديدة حفظ أمن المناطق حتى لا يظهر «داعش» مرةً أُخرى! لكنّ وزير الخارجية الأميركي تيلرسون ما عاد للحديث عن الانسحاب الأميركي، بل ربطه بالتقدم على مسار جنيف، والاتفاق على مصير الأسد. وهكذا يصبح الأمر سياسةً جديدةً في التجاذُب مع الدب الروسي. أو بعبارةٍ أُخرى تظهير الاعتراض على مؤتمر سوتشي. وهو ما تحدث فقط عن العمل على إيصال «داعش» لحدود الانقراض، وعن مصير الأسد، وعن التقدم على مسار جنيف، بل أضاف لذلك كله: محاصرة الوجود الإيراني في سوريا، والحديث عن الاستخدام المستجدّ للكيماوي. وتناغم مع الفرنسيين الذين أدانوا القصف على إدلب والغوطة الشرقية، كما تحدثوا عن الحصار والتجويع.
يعود الأميركيون إذن ومعهم الفرنسيون إلى حدٍ ما، لمعارضة الخطط الروسية لمستقبل سوريا، وتجاهُل الروس للتوافقات. وهذا الأمر أدى بالروس (الذين استحضروا دي مستورا إلى سوتشي لكنْ بشروطه) إلى القول إنّ جنيف تبقى هي الأساس.
عاد التجاذُب الأميركي الروسي إذن إلى الظهور والتفاقُم، مع تجنبٍ شديدٍ من الطرفين للاصطدام. ولدى الطرفين الكبيرين إرغامات. فالتركي والإيراني، كلاهما، مزعج للروس وللأميركيين. الأميركيون بدوا مرتبكين جداً في قصة عفرين، وسيزدادُ ارتباكهم إذا اقترب الأتراك من منبج. وأردوغان عاد ففصل بين العمليتين بعد أن كان قد ربطهما. لكنّ العلاقات بين الأتراك والأميركيين سائرة إلى مزيدٍ من السوء والسلبية. إنما من المؤكَّد أنّ الروس الذين انسحبوا من تل رفعت ليتيحوا مجال الحركة لجيش أردوغان، سيكونون مهتمين بإزعاج الأميركيين من خلال دفع أردوغان باتجاه منبج بعد أن ضربوا صدقية الأميركان بتخليهم عن حلفائهم الأكراد فيها.
أما الإيرانيون فهم مزعجون للروس، رغم التعاوُن معهم في المجال السوري. فهم والنظام يطمحون للسيطرة على إدلب وعلى الغوطة الشرقية. ثم إنهم يُخرجون الروس بالتقدم باتجاه الجولان، وتطوير صناعة الصواريخ في سوريا ولبنان، وهو أمر شكا منه نتنياهو للروس في زيارته موسكو قبل أيام. والإيرانيون (والنظام السوري) ليسوا مسرورين من استمرار ربط موسكو بين سوتشي وجنيف، مما يجدد حديث الانتقال السياسي، والأهم أنه يجدد حديث خروج الميليشيات الأجنبية من سوريا.
على أنّ هذا الإزعاج والانزعاج لا يُخفي حقيقتين، الأولى أنّ الأوراق الرابحة ما تزال بأيدي الطرفين الروسي والأميركي، والثانية أنّ القيد الأميركي على الروس ما عاد قاصراً على التشهير به في المجال الدولي، بل هو يملك قوات على الأرض، لا تقتصر على الأكراد، بل هناك جنودٌ أميركيون يبلغ عددهم الألفين وربما أكثر. ثم إنهم مع حلفائهم يسيطرون على مناطق النفط والمياه في شمال سوريا وشرقها، وعندهم قواعد في تلك المناطق، وعلى الحدود العراقية السورية.
وهكذا ما تزال الأزمة السورية شديدة التعقيد. فقد حقّق الروسي (ومن ورائه الإيراني والتركي) مكاسب على الأرض، وفي أستانا وسوتشي. بيد أنّ الأميركيين ما يزالون على الأرض أيضاً، وازداد تأثيرهم على المعارضة السورية السياسية والعسكرية. ويميل الأردنيون والسعوديون إلى وجهة نظرهم بشأن جنيف، وبشأن وقف النار الشامل والاهتمام بقضايا اللاجئين والمعتقلين، ومسائل الحصار والتجويع.