الاحتجاجات التي شهدتها إيران أخيراً لم تكن من فعل «الأعداء». لم تكن «مؤامرة أميركية – بريطانية – صهيونية»، كما أعلن «المرشد». ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي وراء التحريض على العنف، كما رأى علي شمخاني الأمين العام لمجلس الأمن القومي. «الرسائل» التي وجهها أركان في النظام أخيراً إلى السيد علي خامنئي والنخبة السياسية تقول غير ذلك. ما قاله ثلاثة من أبناء «ثورة الخميني» يحمّل خلفه وسياساته وأجهزة أخرى الجزء الأكبر من المسؤولية عما آلت إليه أوضاع البلاد. تفاوتت لغة كل من هؤلاء الثلاثة ونبرة خطابهم. لكن خوفهم من سقوط النظام، وهم من صلبه، يعني أن الأوضاع في الجمهورية الإسلامية وصلت إلى حال تشبه تلك التي سبقت سقوط الشاه ونظامه. إذاً لم يكن ما قام المتظاهرون هو مجرد تحرك لأعداد معدودة من الشباب، كما عبر مسؤولون في الأمن والقضاء. ولم تكن مطالبهم اقتصادية فحسب، بل لديهم مطالب سياسية واجتماعية وثقافية، على حد تعبير رئيس الجمهورية. لم يكن مجدياً إذاً التقليل من شأن ما حصل في معظم المدن. ولعل أخطر تداعيات هذه الموجة أنها كسرت الهالة التي كانت تحيط بموقع «المرشد» ونظام «ولاية الفقيه». لكنها في المقابل أجّجت الصراع بين التيارات السياسية، خصوصاً بين المحافظين والإصلاحيين. ولا يزال الطرفان يتراشقان بسيل من الاتهامات، وغاب عنهما أن الشباب الذين خرجوا إلى الشوارع والساحات نأوا بأنفسهم وبشعاراتهم عنهما. علماً أن المسؤولين يقرون بأن ابتعادهم من هؤلاء الشباب أحد مسببات هذه المشكلات!
كانت الاحتجاجات رسالة إنذار أدركت النخبة السياسية خطورتها. خصوصاً أن نارها لم تخمد بعد. بل إن خروج عدد من النسوة حاسرات متحديات قانون فرض الحجاب يعطي صورة عما يدور وسط المجتمع من تململ سيتعاظم إن لم يتدارك أهل النظام بجناحيهم الأمر، ويستمعوا إلى المعترضين المطالبين ليس بلقمة العيش فقط، بل بإصلاحات جوهرية تطاول حتى دور المرشد و «الحرس الثوري»، وبتغيير سياسة الدولة الداخلية والخارجية. وهو ما عبر عنه مهدي كروبي، الرئيس السابق لمجلس الشورى والذي يخضع لإقامة جبرية. عزا الاحتجاجات إلى «الظلم والفساد». وطالب خامنئي بالنظر إلى «الهموم المعيشية للشعب». ورأى إلى وضع البلاد «نتيجة مباشرة لسياساته الاستراتيجية والتنفيذية». واتهم «الحرس الثوري» بأنه يتدخل على نحو «كارثي» في الحياة السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية. ونبه إلى أن نصف ثروة البلاد تقع في «أيدي بضع مؤسسات حاكمة». وحذر من «برميل بارود». وهاجم مجلس صيانة الدستور ورئيسه أحمد جنتي. وقال إن «النظام هذه الأيام أصبح في منحدر السقوط».
وسبق الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد كروبي برسالة إلى المرشد حذر فيها من سقوط نظام «ولاية الفقيه»، مشيراً إلى «حالة الشعب والضغط الاقتصادي غيرالمسبوق والنفسي والسياسي». علماً أن أصابع اتهام وجهت إليه بتحريك بعض التظاهرات أو ركوب هذه الموجة واستغلالها. وجاء بعد هاتين الرسالتين خطاب الرئيس روحاني أمام ضريح الخميني. ولم يكن وقعه أقل وطأة أو أقل جرأة. وقد سعى إلى الإفادة من موجة التظاهرات لتعزيز مواقعه بمواجهة المرشد والتيار الأصولي الذي عزا الاضطرابات إلى سياسات حكومته. فدعا «جميع قادة البلاد» إلى «أن يسمعوا مطالب الشعب وتمنياته». وذكّر بأن «النظام السابق فقد كل شيء لأنه لم يسمع صوت المواطنين وانتقاداتهم». وقال إن الشاه «لم يسمع نصائح الشعب. لم يسمع أصوات الإصلاحيين والمستشارين والأكاديميين والنخبة والمثقفين». وكان الرئيس اعترض في مناسبات عدة على دور «الحرس الثوري»، وعلى معظم المؤسسات التي يهيمن عليها المحافظون المتشددون. وطالب بالحد من تغول هذه المؤسسة وهيمنتها على الاقتصاد. فهي تملك اليد الطولى في قطاعات الطاقة والبناء والاتصالات والتعدين والإلكترونيات والخدمات المصرفية وغيرها. كما أنها تشكل الذراع الخارجية للجمهورية ورأس حربة لترجمة سياساتها الحارجية. وينتشر آلاف من جند «الحرس» في شتى بقاع المنطقة، ويقف قادته وراء قيام عدد من الميليشيات التي باتت نداً للجيوش الرسمية في عدد من البلدان العربية، وتساهم في تعميم «ايديولوجية الجمهورية الإسلامية» والثقافة الإيرانية. ويرتب بناء هذه المنظومة في الخارج وديمومتها مبالغ طائلة يعتبر الشباب والفقراء أنهم أحق بها من غيرهم في لبنان وسورية وفلسطين واليمن...
«رسائل» القادة الثلاثة فاقمت اهتزاز صورة «المرشد»، وأعلت الصوت بوجه «الحرس» وغيره من مراكز القوى التي يهيمن عليها المتشددون. لكن هذه الرسائل تظل قاصرة عن استجابة مطالب الشباب المطالبين بإصلاحات جذرية تغير وجه النظام، في حين أن هؤلاء كانوا ولا يزالون حريصين على النظام. وحتى الرئيس روحاني الذي اعتبر لاحقاً أن من أسباب الاحتجاجات هو ابتعاد المسؤولين عن الشباب، كان هدد المتظاهرين بأن «الشعب سيرد على مثيري الاضطرابات ومخالفي القانون». كان يقصد أعمال العنف والتخريب التي رافقت التظاهرات، لكن دعوته إلى النظر في مطالب الناس لا تختلف عن دعوة خصومه في هذا المجال. والمشكلة أن تياري المعتدلين والمحافظين يعيشون قطيعة مع جيل الشباب الذين يشكلون غالبية السكان في إيران، كما هي الحال في معظم بلدان الشرق الأوسط. وهذه الشريحة الكبرى من المجتمع لم تعرف عهد الشاه ولم تعايش بداية «الثورة الإسلامية» وأيامها الأولى. صحيح أن وسائل التواصل الاجتماعي كان لها ولا يزال دور كبير في كسر احتكار المؤسسات الرسمية لوسائل الإعلام ومصادر المعلومات، وكان لها دور في تأليب الشارع وتنظيم التحركات الأخيرة. لكن الصحيح أيضاً أن هذه الوسائل وضعت الشباب على تماس مع الأفكار والثقافات من مختلف أنحاء العالم. وهو ما شجع أصواتاً منهم على المطالبة بتغيير النظام وسياساته، بعدما كانت تحركات مماثلة في السابق تحض حكومات الرؤساء المعتدلين من هاشمي رفسنجاني إلى محمد خاتمي فحسن روحاني على إجراء إصلاحات جذرية تنقل البلاد من حال الثورة الدائمة إلى حال الدولة.
لذلك كشفت الاحتجاجات أن التيار العريض من الشباب تجاوز الانقسام التقليدي بين القوى السياسية، خصوصاً المحافظين أو الإصلاحيين. بدا واضحاً أنهم لا ينتمون إلى أي من الجناحين المتصارعين والمتنافسين على السلطة. رفعوا شعارات ضد الطرفين. حركتهم الأوضاع الاقتصادية المتردية وتفشي البطالة. وانتقدوا تسلط الأمن وقساوة القضاء. وذهبوا إلى حد الدعوة إلى تغيير مسار السياسة الخارجية التي اعتمدها النظام منذ سقوط الشاه. لا يعنيهم «تصدير الثورة»، الشعار المرادف لسعي طهران إلى الهيمنة والتوسع في الإقليم تحت ذرائع أبرزها حماية الجمهورية الإسلامية. تماماً كما عول الاتحاد السوفياتي طويلاً على مثل هذا الشعار وانتهى إلى السقوط من الداخل. ولا يخفى أن ما دفع الشباب إلى التخلي عن التيار الإصلاحي هو فشل هذا التيار في استجابة طموحات الغالبية العظمى منهم. وهي غالبية كانت ولا تزال ترغب في إصلاحات اجتماعية واقتصادية وثقافية، وهيكلية في النظام لوقف الفساد والظلم. وترغب في طريقة حياة تبعاً للنموذج الأميركي أو الغربي عموماً. انحازوا طويلاً إلى هؤلاء الزعماء لعلهم يكسرون استئثار المحافظين المتشددين بزمام الأمور. لكنهم منوا بخيبة كبيرة. وكانت حكومة الرئيس روحاني في ولايته الأولى وعدت مواطنيها بالمن والسلوى بعد إبرام الاتفاق النووي قبل عامين، معولة على ثمار رفع العقوبات، الأميركية منها خصوصاً. لكن موقف الرئيس دونالد ترامب من هذا الاتفاق، ورفع إدارته شعار مواجهة طهران لدفعها إلى تغيير سلوكها في الإقليم، ووقف برنامجها الصاروخي وإصلاح بعض البنود في الاتفاق، ثم فرضها عقوبات جديدة عليها... كلها عوامل عرقلت تدفق الرساميل الأجنبية وأعاقت تقدم الشركات العالمية، الأوروبية خصوصاً. وتركت أثراً عميقاً في السوق المالية. حتى أن التومان هبط مطلع الاسبوع الماضي إلى أدنى مستوى له منذ قيام الثورة. وهو ما يؤشر إلى تفاقم الوضع، وإن رأى بعضهم إلى الأمر محاولة من الحكومة لرفع أسعار الدولار من أجل تعويض العجز في الموازنة. وهو ما نفاه بالطبع الرئيس.
الرئيس ترامب دعا أكثر من مرة إلى مواجهة «أنشطة إيران التي تزعزع الاستقرار في الشرق الأوسط». ووضع البنتاغون هذه المواجهة في سلم أولويات استراتيجيته. مواصلة واشنطن ضغوطها على طهران وحلفائها، خصوصاً «حزب الله»، وانحياز العواصم الأوروبية إليها في مطالبة الجمهورية الإسلامية بوقف سياسة الهيمنة والحد من برنامجها الصاروخي، سيلقيان بثقلهما على الاقتصاد الإيراني، ويخلفان مزيداً من الشكوك في مستقبل الاتفاق النووي على رغم تمسك العواصم الخمس الأخرى بهذا الاتفاق. والأكثر خطورة هو أن تواصل النخبة السياسية الإيرانية صم آذانها عن صرخة الشباب والفقراء والنساء ووصفها بأنها من صنع «الأعداء» أو هي تصرفات «تافهة» و «صبيانية» و «بتحريض من أجانب»، على حد ما وصف النائب العام محمد جعفر منتظري خلع نسوة الحجاب في طهران وأصفهان وشيراز. هل يلاقي «حرس النظام» الشباب قبل فوات الأوان؟ وهل يعون مدى التبدل الذي طرأ خارج أسوار الجمهورية؟ كيف يعالجون تأثير العوامل التي أججت الحراك الشعبي؟ عوامل ثلاثة حددها بوضوح وزير الداخلية عبد الرضا رحماني فضلي: «اختلاف الأجيال، والتقدم التكنولوجي، ونمط الحياة». ليس في الأفق القريب ما يشير إلى أن المرشد في وارد تغيير سياساته وأدوات الحكم، أو أن مراكز القوى و «الحرس الثوري» في وارد التخلي عن مكاسبهم... على رغم ذلك سيظل التغيير رهن حراك الداخل وإن على وقع الضغوط والعقوبات ومواجهات الاستنزاف في ساحات المنطقة، من اليمن إلى سورية والعراق.