صحيح أنّ معظم السفراء، وفي طليعتهم سفراء الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا والمملكة العربية السعودية انشغلوا خلال الأيام الماضية في تكثيف اتّصالاتهم واستقصاءاتهم لتبيان الخلفية الحقيقيّة لمواقف باسيل، إلّا أنّ استدارةً سياسية بهذا الحجم وبهذه الأهمّية لا تحصل بهذه الطريقة.
فالتحضيرُ لها يكون أقوى وأوسع، فيما بقيَت هذه المواقف في إطارٍ محدود ومن دون مراحل مكمّلة، لا بل إنّها كانت تُستتبع عند كلّ مرة بتوضيحاتٍ من جانب باسيل نفسه.
كذلك فإنّ البناءَ عليها لتثبيتها، يتطلّب ملاقاة باسيل من قبل الفريق المتحالف تقليدياً مع السعودية أو الولايات المتحدة الأميركية فيما سُجّل بقاءُ وزير الخارجية وحيداً وسط الحلبة مفتقداً الى صوتٍ سياسيٍّ يَدعمه.
ومن البديهي أيضاً أن تكون الانعطافةُ السياسية، إذا وُجدت، تحظى بمباركة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المشهود له بالاندفاع والذهاب بمواقفه الى النهاية بجرأة قاربت التهوّرَ أحياناً. ولكنّ عون سارع هنا الى إصدارِ بيانٍ مَرِن في البداية ومن ثمّ بادر إلى الاتّصال برئيس مجلس النواب لوضع الأمور في إطارها الضيّق.
والاهم من كل ذلك، أنّ باسيل كان قد ألقى كلمةً قويّةً سقفها عالٍ خلال مؤتمر الجامعة العربية قبل أسابيع معدودة في معرض الرّد على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب حول القدس، وبالتالي ليس من المنطقي الذهاب من أقصى اليمين الى أقصى اليسار في فترة قصيرة جداً.
أضف الى ذلك أنّ الحروب والنزاعات العنيفة التي ألهَبَت العراق وسوريا وكادت أن تخنقَ لبنان، أفضَت الى نتيجة واضحة أقرّت بها العواصم الغربية، كما الخليجية، ومفادُها خسارة الفريق المناوِئ لإيران في مقابل توسيع نفوذ طهران. فكيف يمكن لفريقٍ سياسيٍّ الانتقالُ طوعاً من موقعه المريح على الضفة المنتصرة إلى الضفة الخاسرة؟
فحتى الرئيس سعد الحريري أقرّ بالواقع الجديد ما أدّى الى تفكّك فريق «14 آذار» وذهب للقبول بوصول عون الى قصر بعبدا على قاعدة الانسحاب من النزاع الإقليمي والتعاون مع «حزب الله» رأس حربة الفريق الإيراني. وعلى رغم الأزمة الحادة التي مرَّ بها مع السعودية فإنّه بقيَ متمسّكاً بخياره، وهو ما حرص على إعلانه مجدّداً عبر صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية حول تمثيل «حزب الله» في الحكومة والتعاون معه لضمان الاستقرار الداخلي.
أضف الى ذلك أنّ باسيل ومن خلال علاقاته مع العواصم الأوروبية والغربية، والتي ساهَم من خلالها في تحسين مواقف «حزب الله»، يعرف بالتواصل الفرنسي القائم مع «حزب الله» وببداية التواصل الأميركي مع الحزب، ولو من خلال الدولة اللبنانية.
كما أنّه يعرف أكثر عن زيارة مسؤولين أميركيّين أمنيّين الى سوريا عبر لبنان، وعن قرارٍ فرنسي بالتحضير للتواصل المباشر مجدداً مع دمشق. ووفق كل ما تقدّم، هل يُعقل وضعُ ما حصل في إطار التحضير لانعطافةٍ سياسيةٍ كبرى؟
قد يكون من المنطقي النظر الى الملفّ برمّته من منظار آخر حدودُه النزاع الداخلي الدائر بين «التيار الوطني الحر» والرئيس نبيه برّي والاستحقاقات التي تنتظر الفريقين في المستقبل القريب.
وقد سخر أحدُ السياسيّين المنتمين الى فريق «14 آذار» من التحليلات حول حصول انفصال أو طلاق بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله»، وقال: «كانت واشنطن ساذجةً عندما راهنت على فصل دمشق عن طهران، واليوم ساذج هو مَن يعتقد بوجود احتمالٍ بفصل «التيار» عن الحزب». وختم بسخرية: «في كل الحالات ألم يرَ ماذا حلّ بنا!؟».
في الواقع فإنّ المعركة التي نشَبَت بين الفريقين ومع بدء الحملات الانتخابية، لم تكن الأولى من نوعها. فقبلها جولاتٌ كثيرة أبرزها بلا شك موقف برّي المعارض لتسوية وصول عون الى قصر بعبدا وسعيه إلى إجهاض التسوية، ومن ثم تأخير إنتخابه لخمس دورات خلال جلسة الإنتخاب، ومن ثم الصراع حول التشكيلة الحكومية وإعادة توزير الوزير علي حسن خليل وإيلائه حقيبة المال على رغم معارضة عون. وهذا ما دفع برئيس الجمهورية ربما الى القول إنّ هذه الحكومة ليست حكومة العهد الأولى.
ووفق ذلك، لا بدّ أنّ برّي مرتاب من رد عون بالمثل مع الوصول الى انتخابات رئاسة المجلس النيابي المقبل، ومن بعده الى التشكيلة الحكومية المقبلة.
وفي المقابل، كان باسيل قد باشر برفع حماوة المعركة مع برّي بعدما كان الأخير قد افتتحها من خلال مرسوم الأقدمية. كان هنالك اقتناع بأنّ باسيل تعمّد إيصال كلامه خلال لقاء محمرش في البترون مع علمه بوجود عشرات الأشخاص، عدد كبير منهم من قوى وأحزاب معارضة له ويقومون بتصوير كلمته.
استغلّ برّي الخطأ الحاصل وقرَّر فتح المعركة وتوجيه رسائله بالجملة، ولو من خلال الشارع:
واحدة لباسيل من خلال «خطيئة» تظاهرة «ميرنا الشالوحي»، فهو أراد نقل المعركة من كونه فريقاً داخل الطائفة الشيعية الى حَشد الشارع الشيعي خلفه.
ورسالة ثانية الى «حلفائه» الأقربين بأنّ الخطأ في التقدير والانزلاق في رهانات خاطئة سيعني إشعال كل المناطق التي لديه فيها تأييد شعبي.
ورسالة ثالثة الى خصوم باسيل بأنّه اتّخذ قرارَه بالمواجهة وهو جاهز لتمتين خيوطه معهم.
في المقابل، كان باسيل قد وضع استراتيجية معركته على أساس الضغط على «حزب الله» من أجل وضع مسافة بينه وبين حركة «أمل»، ما يُسهّل إسقاط برّي لاحقاً.
وعلى رغم الالتباس الذي رافق كلام باسيل في «الماغازين»، لكنّ هدفَه كان واضحاً في هذا الإطار. وعدم الدقة في التصويب فتح الأبواب أمام الالتباس الذي سادَ الوسط اللبناني.
برّي كان في الوقت ذاته يحسب للعلاقة القائمة بين «التيار الوطني الحر» و»حزب الله» ويتحسَّس منها، لذلك وزّع رسائله عبر الشارع.
لا بل إنّ إقتناعاً بات موجوداً لدى الفريق المحيط ببرّي بأنّ باسيل الذي يُنفّذ أجندة رئيس الجمهورية، لا يهدف فقط للثأر من برّي والعمل على إزاحته، بل أيضاً لتأمين ممرٍّ مريح لنفسه الى رئاسة الجمهورية، وهو ما يعني أنّ لقاء بعبدا غداً الثلثاء لن يحمل مضموناً سياسياً كبيراً يؤدّي الى إنهاء الخلاف، بل فقط سيفتح بابَ التواصل المباشر بين بعبدا وعين التينة في انتظار المساعي الجدّية التي ستحصل في الكواليس والتي ستُركّز على خطوط التماس الثلاثة: رئاسة مجلس النواب، الحكومة المقبلة والإنتخابات الرئاسية المقبلة.
ما يعني أنّ هذه المفاوضات لن تكون سهلة وستأكل كثيراً من الوقت والجهد، وقد لا تُؤدّي الى نتيجة، ما قد يعني أنّنا قد نشهد جولات أخرى من المواجهات السياسية، ولو أنّ استخدام الشارع مرّة أخرى بات صعباً أو عديمَ الفائدة. وهذه الجولات المتوقّعة ستزيد من حماوتها الحملاتُ الإنتخابية.
فالسفير السعودي سيعود الى لبنان نهاية الاسبوع بعدما غادره منذ يومين حاملاً معه التصوّرَ الانتخابي نتيجة المشاورات التي أجراها. وهو سيلتقي الحريري فور عودته للتفاهم على الصورة الانتخابية كاملة.
هذه الصّورة التي كان الحريري قد باشر بترتيبها بعد انفراجِ وضعِه مع السعودية وسط إيجابية تمثّلت في منح شركته الجديدة عقدَ تشييدِ مشروعَين لوليّ العهد الأمير محمد بن سلمان بقيمة إجمالية بلغت 650 مليون دولار، وهذا العقد يحمل في طياته تفاهماً وتقارباً انعكس في أولى مؤشّراته الإنتخابية انفتاح تيار «المستقبل» المفاجئ على «القوات اللبنانية»، ووصول المفاوضات بينهما الى مراحل متقدّمة تؤشّر الى زيارة قريبة لرئيس حزب «القوات» سمير جعجع الى «بيت الوسط».
هذا التقدّم في التفاوض قابله تجميد على محور مفاوضات «القوات» و»التيار الوطني الحر» منذ اندلاع الأزمة مع رئيس المجلس النيابي.
الحريري يُرتّب تصوّره الأولي لتحالفاته الإنتخابية وفق النصيحة السعودية بعدم الذوبان في «التيار الوطني الحر» وبعدم حصر العلاقة المسيحية معه فقط. لكنّ تفاصيل كثيرة لم يتم إنجازها بعد، ولو أنّ الشيطان يسكن في التفاصيل، ما يعني أنّ الاشتباك مع برّي لا بد من أن يأخذ في الحسبان الاعتراض على الحصّة التي سيضطرّ الحريري لتخصيصها لـ«التيار الوطني الحر».