ماذا لو قال سياسي آخر غير وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل ما قاله الأخير في محطة «الميادين» التلفزيونية قبل أسابيع؟ «خلافنا مع إسرائيل ليس أيديولوجياً...»؟ ماذا لو قال هذا الكلام سعد الحريري مثلاً أو وليد جنبلاط؟ الخيانة الوطنية هي أقل ما كان يمكن أن تُنسب إلى الرجلين، ناهيك عن احتمال إباحة دمائهما، ذاك أن ترسانة الممانعة التي يديرها «حزب الله» سبق أن فعلتها في محطات أخرى، ولأسباب أقل بكثير مما قاله باسيل. وبالأمس كرّر جبران ما يُفترض أنه كُفر بقاموس الممانعة عبر قوله: «للأسف ثمة خيارات لدى «حزب الله» تمسّ بمصلحة في لبنان، وهذا ما يدفع لبنان ثمنه، وذلك لأسباب استراتيجية»، وعلى رغم أن جبران نطق كفراً، إلا أن الممانعة كانت مرة أخرى غفورة!
هذه السعة ليست امتداداً للعلاقة بين الممانعة وبين صبيانها، كما أنها ليست شَجاعة معهودة بالوزير المغفورة أخطاؤه، لكنْ يبدو أن ثمة متغيّراً أملى انعطافة من المرجح أن «حزب الله» متفهّم لها، والأرجح أنه متواطؤ فيها، فالدرس الأخير كان جلياً، ذاك أن نتائج الاشتباك بين باسيل ورئيس مجلس النواب نبيه بري جاءت لمصلحة الوزير بعد أن أدار الحزب عملية التفاوض على تسويته، وهذا ما يؤشر إلى رغبة الحزب في الإيحاء بأن رئيس الجمهورية أخذ مسافة من حلفائه، وأن مواقف فريقه تبتعد من مواقف الحزب، وأن التحالف الثقيل مع الأخير لا يعني تماهياً كاملاً مع مواقفه.
تؤمّن هذه الانعطافة الافتراضية مهمّتين، الأولى خارجية في ظل مشاريع العقوبات الأميركية على الحزب وعلى لبنان وفي ظل الإلحاح الدولي، والأوروبي تحديداً، على ضرورة أن ينأى لبنان بنفسه عن الملفات الإقليمية المرهقة التي قذفه إليها «حزب الله». أما المهمة الثانية فهي ما يمكن أن تخلفه هذه المواقف للتيار العوني، ولباسيل تحديداً، من حاصلٍ انتخابي، فالرجل انتصر بالأمس على رئيس مجلس النواب، وها هو اليوم يطلق مواقف غير منسجمة مع حليفه الرئيس «حزب الله». سيَطْرب المسيحيون لهذه المشاغبة، وسيجني صهر الرئيس أصواتاً في صناديق الاقتراع جراء منافسة خصومه المسيحيين على خطابهم الذي يتمحور على سلاح الحزب.
من يقرأ ما كتبت الصحف القريبة من «حزب الله» عن «زلة باسيل» بالأمس، وعن إعلانه أن «لا خلاف أيديولوجياً مع إسرائيل» يشعر بأن القضية ليست خلافاً في جوهر الأشياء، وأن ثمة ضوءاً أخضر أعطاه الحزب للرجل الهدف منه توسيع هامش تحرك رئيس الجمهورية، خصوصاً أن لبنان على أبواب عقوبات أميركية من المفترض أن لا تميز بين الحزب وبين الاقتصاد اللبناني، فـ «زلة باسيل» في تلفزيون «الميادين» لم ترقَ ردود الفعل عليها إلى مستوى رد فعل الحزب وأجهزته على عرض فيلم «ذا بوست»، وعلى زياد دويري، على رغم أن «الكفر» في حالة الوزير بلغ مستوى أعلى، فهو قال ما يمكن تفسيره بسهولة أن الخلاف مع إسرائيل لا يعدو كونه خلافاً في المواقف لا في المواقع، وما قصده بالـ «أيديولوجيا»، على رغم تعثّره بمعنى الكلمة، يمكن تشبيهه، في ما لو كانت الممانعة يقظة على نحو ما كانت في حالة دويري، بدعوة إلى المصالحة والتطبيع.
لكن، يبقى أن لقرار الحزب توسيع هامش تحرك باسيل نتائج موازية، فوزير الخارجية هز بالأمس موقع رئيس مجلس النواب، وها هو اليوم يكشف هشاشة وكاريكاتورية الخطاب الممانع، والأخير أحد أسلحة الحزب الموازية. وإذا كان «حزب الله» واثقاً من قدرته على ضبط ردود أفعال الأشقاء الصغار حيال تكتيكاته هذه، فإن طموحات باسيل قد تذهب به أبعد مما حدده له الحزب إذا شعر أن ما جناه من نتائج يخوّله مفاوضة العالم من دون تفويض من الحزب.
ما يُعزّز هذا الاحتمال وجود رغبة دولية عارمة ببلورة خيارٍ لبناني بعيد من خيارات الحزب. هذه اللحظة لم تحن بعد، ولبنان ما زال ضمن دائرة الضبط، لكن موقع وزير الخارجية وتضخّم مهماته وتحوّله «رجل الجمهورية»، ستتيح له القيام بقفزة ما أن تلوح فرصة، فالرجل ليس سليل وديع حداد، وخلافه غير أيديولوجي فعلاً مع إسرائيل.