لوهلة يبدو ما حصل بين نبيه برّي وجبران باسيل، وبين محازبي الإثنين، مجرّد تفاهة لبنانيّة أخرى. تفاهة يؤجّجها اقتراب الموعد الانتخابيّ ويطفئها تدخّل حاسم من حزب الله. الموعد الانتخابيّ «يشدّ عصب» الطوائف التي ستقترع. التدخّل، في المقابل، يتعالى على «صغائر» الانتخابات لأنّ «القضايا» الكبرى مقيمة في مكان آخر. لائحة «القضايا» أضيف إليها البلوك النفطيّ الرقم 9. المصير يقرع أبوابنا.
بين هذين الحدّين يتلاطم وحل كثير وقيح أكثر. في تويتر وفايسبوك، وفي فيديوهات وتسريبات، ولكنْ أيضاً في الشارع، على ما دلّت «غزوة» الحدث.
لكنّ التفاهات ليست دائماً تافهة في دلالاتها. وأغلب الظنّ أنّ الأهميّة الأولى التي تدلّ إليها هذه التفاهة استحالة «تحالف الأقلّيّات». فما نشأ في الصراع مع القوّة «السنّيّة» الحريريّة ثمّ انفجار الثورة السوريّة، بات يفتقر إلى زخمه مع ضمور تلك القوّة «السنّيّة» واضمحلال المخاوف المنبعثة من سوريّة. والأمر أكثر من افتقار إلى الزخم. إنّه يقول إنّ مساحة الافتراق بين الطوائف اللبنانيّة، أكثريّةً كانت أم أقلّيّةً، أكبر كثيراً من أن تُختصر بظرف سياسيّ، بل أكبر من المساحة التي تحتلّها السياسة بمعناها المتعارف عليه في لبنان.
فالظاهر الطائفيّ الذي تستدعيه ظروف سياسيّة بعينها يكتم طبقات باطنيّة شكّلتها عقود وتجارب مديدة، قد نسمّيها ثقافيّة وقد نسمّيها وجوديّة. ولئن خدمت الظروف «حركة أمل» فلم تحوجها إلى إخفاء الباطن إلاّ قليلاً، فهذا ما لا يصحّ في «التيّار الوطنيّ الحرّ». لقد كان البُعد الرمزيّ قويّاً جدّاً في «معركة الضبّاط» التي فجّرت بقية «المعارك». فالعام 1994 ينتمي إلى زمن الصراع من حول ضفّتي الوصاية السوريّة ونظامها. واليوم يبدو العونيّون كأنّهم يعودون إلى ينابيعهم: يذكّرون بأنّه كان «احتلالاً سوريّاً». لا يتكتّمون على أحد أبرز مصادرهم، أي البشيريّة موشّاةً بميّ المرّ وسعيد عقل. يلفظون الدهون القوميّة السوريّة التي علقت بجسمهم في الفترة السابقة. الآخر، عندهم، ليس «حركة أمل» فحسب، وهي التي خاضت «حرب المخيّمات» الشهيرة ضدّ الفلسطينيّين. الآخر هو أيضاً جمهور «حزب الله»: فيلم «البوست» لسبيلبرغ وفّر الفرصة لتظهير هذا الخلاف العميق.
بعض أبناء الشتوة الأخيرة ممّن لا يعرفون إلاّ القليل عن تاريخ البلد وتركيبه صُعقوا: «الخطاب الانعزاليّ يطفو على السطح». بعضهم لجأ إلى المعجزة: «نجحت هالة الأمين العامّ لحزب الله السيّد حسن نصر الله وحكمته في إنتاج مخرج مشرّف». ألم يقل عون لبرّي إنّ «كرامته من كرامته». ربّما. لكنّ القلوب والعقول صارت في مكان آخر. الخلاف وصل إلى أبيدجان. «شدّ العصب» الطائفيّ عشيّة الانتخابات أقوى كثيراً وأعمق كثيراً من هالة الأمين العامّ حتّى لو نجحت ظاهريّاً في رتق النزاع.
أغلب الظنّ أنّنا نتهيّأ للعيش في ما بعد تحالف الأقلّيّات. ستتفجّر نزاعات وستُتّهم «طوابير خامسة»، وسوف تنعقد تسويات تستنزف، على مدى أبعد، هالة الأمين العامّ، وقد تحوجها إلى الاختيار والنزول الصريح من علياء القضايا الكبرى.
ففي علاقات من التفسّخ الاجتماعيّ والمجتمعيّ، يصعب الرهان على أحلاف وتحالفات ذات ديمومة. فكيف وأنّ المصالح والحصص متضاربة، و «الوعد» عند طرف هو «حرب وخراب» عند الطرف الآخر؟
إنّ لقاء في كنيسة مار مخايل لا يكفي. هناك بين مُصلّي الكنيسة من يعتبرون أنفسهم رهائن. للأسف، هذا هو لبنان حتّى إشعار آخر.