لا داعي لقراءة مقابلة وزير الخارجية جبران باسيل، مع مجلة «ماغازين» الصادرة باللغة الفرنسية. يكفي الاعتماد على البيان الذي أصدره باسيل أمس، تعقيباً على الضجة التي أثارتها المقابلة المنشورة أمس. في البيان، أوضح رئيس التيار الوطني الحر أنه قال: «إنه يأسف لوجود بعض الاختلافات (بين التيار وحزب الله) في المواضيع الداخلية، وثمة قرارات يتخذها الحزب في الموضوع الداخلي لا تخدم الدولة، وهذا ما يجعل لبنان يدفع الثمن، وإن بنداً أساسياً هو بناء الدولة في وثيقة التفاهم لا يطبَّق بحجة قضايا السياسة الخارجية». وختم باسيل بيانه بتأكيد أنه «مهما حاول اليائسون تخريب العلاقة الاستراتيجية مع حزب الله، (فإنهم) لن ينجحوا».

لفهم المشهد أكثر، لا بد من إعادة رسم مسار أداء باسيل في الشهرين الأخيرين.
في مقابلته مع قناة الميادين (يوم 26 كانون الأول 2017)، قال باسيل إن عداءنا لإسرائيل ليس إيديولوجياً. تزامن ذلك مع اندلاع أزمة مرسوم أقدمية ضباط دورة عام 1994. بعد ذلك، كان له موقف في مجلس الوزراء يسخر فيه من أي دعوة لمقاطعة المطبّعين مع العدو. ويوم الأحد الفائت، في الفيديو المسرَّب من إحدى بلدات البترون، وصف باسيل رئيس مجلس النواب نبيه بري بـ«البلطجي»، متوعداً بـ«تكسير رأسه». وبعد ذلك، رفض الاعتذار من بري، وقرر الاستفادة من ردّ فعل جزء من جمهور حركة أمل، لرفع أسهمه شعبياً.
هل من فسحة بعد لحُسن النية؟ تراكم الزلات والأخطاء يحوّلها إلى منهج. ماذا يريد باسيل؟ هو ببساطة، يطالب حزب الله بالابتعاد عن حركة أمل. لا يمكن عاقلاً تصديق ما يروّجه المنزعجون من التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر. يزعم هؤلاء أن وزير الخارجية، منذ ما بعد خطابه الشهير في الجامعة العربية (في التاسع من كانون الأول 2017)، يسعى إلى «التكفير عن ذنبه»، إرضاءً للأميركيين والسعوديين. لا يحتاج باسيل شهادة في هذا المجال، وهو المتمسك بخيار التحالف مع المقاومة. لكن أداءه يوسع المساحة التي يمكن المتضررين من «تفاهم مار مخايل» اللعب فيها.
تأكيد الصحافي بول خليفة أن المقابلة التي نشرتها الـ«ماغازين» أمس أجريت في التاسع من كانون الثاني الماضي، يعيد توضيح هدف باسيل. وزير الخارجية وجّه الانتقاد إلى حليفه الأقرب، حزب الله، قبل أسابيع من تسريب فيديو «البلطجة». ماذا يعني ذلك؟ ثمة إصرار من باسيل للضغط على حزب الله لفك علاقته مع حركة أمل، بذريعة أن بري يعرقل بناء الدولة. وبناء الدولة، عندما يطالب به باسيل، يتحوّل إلى نكتة سمجة. صحيح أنه خاض معارك شتى لإعادة الاعتبار إلى دور الدولة في الكثير من القطاعات، كإنتاج الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر، إلا أن خطابه وأداءه يناقضان تماماً أي فكرة، ولو متخيلة، عن الدولة. لا حاجة لنبش مشاريع قانون الانتخاب التي حاول تمريرها، ولتثبيت التقسيم الطائفي للناخبين ودوائرهم. تكفي مراجعة ما يقوم به لتعطيل توظيف فائزين بمباريات مجلس الخدمة المدنية، لشغل وظائف في الدولة، من الفئة الرابعة. كذلك تكفي العودة إلى كلامه المسرّب قبل أسبوع، عن سلسلة الرتب والرواتب، ووضع إقرارها في إطار تشجيع المسيحيين على التقدم لتولي الوظائف العامة. عبّر عن فكرته بطريقة لا توحي للمتلقي سوى أن رئيس أكبر تكتل وزاري يرى أن الرواتب التي كانت تُدفع للموظفين قبل قانون «السلسلة» تليق بغير المسيحيين وحدهم.


ماذا يريد باسيل؟ إبعاد حزب الله عن حركة أمل. وإلا؟ اتهام الحزب بعرقلة بناء الدولة. يبلع رئيس التيار بحر تحالفه مع تيار المستقبل، رافعة نظام ما بعد الطائف بكل ما فيه من خير وشرور وفساد، ويغصّ بتحالف بين حزب الله وحركة أمل. والتحالف الأخير، ما كان في مقدور الحزب تحقيق إنجازات من دونه، وآخرها انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وإقرار قانون للانتخابات يعتمد النظام النسبي، وحماية البلاد من خطر «داعش» وأخواتها. من يستمع إلى تسريبات الأحد الماضي كاملة، يكتشف أن باسيل، الذكي وفارض الأولويات، يتجاهل، أو يجهل ربما، قدْرَ بري. من لم يفز بانتخابات يوماً، وبويع لرئاسة التيار بلا اقتراع، لا يرى في خصمه سوى مسيطر على السلطة التشريعية بـ«وضع اليد». يمكنك أن تقول في بري ما تشاء. لكن، من شروط النجاح في مواجهته، معرفة ما يمثّله من «شرعيات متراكمة». وأول شروط التعامل معه، سلماً أو «حرباً»، التنبه إلى كونه ليس حليفاً ملحقاً بحزب الله، يمكن تجاوزه، أو دفع الحزب إلى التخلي عنه. فبري هو أحد هادمي نظام ما قبل الطائف، وأحد صانعي ما بعده، وممثل الشيعة الأول في الدولة، وحليف لإيران من قبل أن يولد حزب الله، وحليف لحافظ الأسد، وأحد أركان مقاومة إسرائيل، وأحد الذين أمّنوا الغطاء السياسي لمنع بقاء القوات المتعددة الجنسيات في لبنان في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي، وأحد الذين أسقطوا اتفاق 17 أيار، وهو رئيس واحد من أكبر الأحزاب اللبنانية، على المستوى الشعبي. يمكن باسيل «اختبار» حركة أمل في الانتخابات المقبلة، ومقارنة ما سيحصل عليه مرشحوها، بما سيحصل عليه مرشحو أي حزب آخر. بري هو كل ذلك، قبل أن يكون «حليف حزب الله». هذا الكلام ليس مديحاً لرئيس المجلس، ولا ذمّاً بباسيل، بل محاولة للقول إن التعامل مع نبيه بري، سواء كنتَ إلى جانبه أو في ضفة خصومه، لا يستقيم والنظر إليه كملحق يمكن كسره أو تحييده، أو «إجبار» حزب الله على الابتعاد عنه.
مرة جديدة، لا بد من تكرار ما يقوله أحد محبي باسيل الحرصاء عليه: «جبران لا ينقصه الذكاء. كل ما يحتاجه هو القليل من الحكمة»