اختلط الحابل بالنابل كثيراً في الأيام الماضية. قفز مباشر من رخاوة طلائع الموسم الإنتخابي إلى حماوة تتجاوز شحذ الهمم الانتخابية. قفز أيضاً من مرحلة كان يبدو أساس المشكل فيها هو بناء فريق لمشروع موازٍ للدولة، ومقوّضٍ لكثير من بنيانها ووظائفها، وله موطئ فيها في نفس الوقت، ويتترّس بها متى كانت حاجة، إلى المشكل المعاكس: تزاحم على "الانخراط" في الدولة، أو قل انخراطاً زائداً، وبطبيعة الحال خلاف على الحصص، والمواقع، والتراتبيات المؤسسية منها والرمزية. تزاحم على الانخراط في الدولة من قِبل حزبيات جمع شملها ائتلاف قاده "حزب الله" في الاثني عشر عاماً الاخيرة.
المشكلة ان الخلافات حول التعيينات والترفيعات والملفات المختلفة يُفترض ان تكون بديهية، وطبيعية، الا انه في غياب معايير قائمة بذاتها، ومعتمدة، لتأطير هذه الخلافات، لا سيما وان الجميع تقريباً في الحكومة، والطرفان المتخاصمان حالياً لا يزالان "نظرياً" حليفين، ويجمعهما حليف اكبر، "حزب الله"، يبدو اليوم اقرب الى طرف من طرف، لكن يصعب تقدير كيفية وزنه الامور الآن، ولا بد من الانتظار بعض الشيء.
الخلافات ضرورية، وليس هناك خلافات مستعصية في كل ما كان سبباً لتوتير الاجواء بين حركة "امل" والتيار "الوطني الحر"، ذلك حتى تاريخ دخول عنصر الشخصنة بقوة بعد تناقل شريطين، ثم انفلات الوضع بشكل مقلق، خصوصاً اذا كان غير مرشح للانحسار. لكن المفارقة ان هكذا خلافات يفترض ان تكون اكثر من مألوفة، تتحول، بسبب من هشاشة بلغت حدّاً متقدماً، وبسبب الافتقاد التام لمعايير يحتكم اليها للفصل بين المطالب المختلفة، وطغيان نظرة يتحول فيها كل مطالب بشيء الى المرجع لوزن احقية طلبه، الامر الذي يوصد الباب للأخذ والرد.
المؤسسات الدستورية يُفترض ان تكون مكان معالجة هذا النوع من الخلافات، والمشكلة الخطيرة اليوم انه لأول مرة بعد الحرب تقريباً، ينفجر في الشارع خلاف متفرع عن خلاف بين رئاستين. صحيح ان هناك تراكماً هنا، وان التسوية الرئاسية والحكومية لم تتمكن يوماً من معالجة هذا الاشكال، وأن الصورة الجامعة ايام ازمة الاستقالة في الخريف الماضي لم تلبث ان توارت خلف مشكلات متلاحقة، من ترقيات العسكريين الى فيلم سينمائي الى فيلم غير سينمائي. لكن هناك ايضاً هشاشة النظام السياسي برمّته. هشاشة لا يمكن مداواتها كل مرة بتعويذات عن "الميثاقية". هشاشة محتقنة، نظراً إلى تداخلها هنا مع حساسية متنامية بين قوتين سياسيتين انخرطتا في تحالف مديد مع "حزب الله"، وتصادمتا حين تناقض منطق انخراط كل منهما في الدولة.
ما خسره البلد "بخسارته" ثنائية 8 و14 آذار ليس بقليل. انفجار 14 ارتد انفجاراً لـ 8 آذار. انفجار 14 ظل محصوراً بتعطّل العمل الجبهوي، التنافر، محاولات ضبط التنافر، القراءات المختلفة للاحداث والمواقف. انفجار 8 آذار اخذ مساراً مختلفاً تماماً، ولم يأخذ الشكل الذي سيستقر عليه بعد.
واليوم اكثر من قبل تظهر فداحة عدم الذهاب فور ابرام قانون الانتخاب في العام الماضي الى الانتخابات. نقص مناعة النظام اللبناني اشتدت، وهو معلّق في الفضاء، بصحبة قانون انتخابي جديد وعويص، وفي انتظار استحقاقه الانتخابي المؤجل..حتى صار التحدي ان "يصمد" هذا النظام، بالتي هي احسن، حتى إجراء الانتخابات.