شكلت المرحلة الحالية من تاريخ لبنان السياسي تحولات مهمة على شتى الصعد، فمع أزمة النفايات والحراك الشعبي الذي كان مفاجئاً للطبقة السياسية الحاكمة، اندفعت هذه الطبقة إلى التلاحم والتضامن - على عكس صورة الانقسام التي كانت معممة - بوجه الشارع والناس، بهدف قمع الاحتجاج، فقامت هذه الطبقة بشيطنته وإنزال صفة العمالة بقادته ونبشت القبور لأجل ذلك. ولكن في الجهة المقابلة أخذ هذا الحراك بغالبية مكوناته مساراً يبشر بتأسيس حركة سياسية جديدة تتخطى الفكر السياسي الزبائني، إلى ما هو أبعد بكثير وبشعارات وطنية.

 منذ انتهاء الحرب الباردة عالمياً وانكسار المعسكر الاشتراكي، وتزامنه مع انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، انحسر كثيراً حضور الأحزاب الوطنية أو العابرة لحدود الطوائف، في حين سطع نجم قادة الحرب كرموز للعمل السياسي والحزبي في لبنان. وقد ساهم الاتفاق السياسي بين أهل السلطة والنظام السوري آنذاك على تقويض مساحة اللاعبين "غير المنضبطين"، فكانت دماء الشباب الذين سقطوا من الحزبين القومي والشيوعي خير دليل على الرغبة في حسم هذا الأمر، خصوصاً أن هذه الدماء لم تسقط سوى "بنيران صديقة".

غير أن الحراك السياسي والاجتماعي لم يتوقف أبداً، ففي منتصف التسعينيات تأسست في لبنان العديد من مجموعات العمل السياسي والتي يأتي معظمها من طلاب الجامعات، وقد تحركوا كرد فعل على السياسات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات المتعاقبة آنذاك، حيث نجحت في تشكيل حالة بقيت مستمرة ولو بوتيرة تنازليه. وخير شاهد على ذلك كان تأسيس حركة اليسار الديمقراطي، وتشير أدبياته إلى انه مشروع سياسي مختلف عن السائد، إن من حيث المنطلقات أو من حيث الرؤية السياسية الوطنية الجامعة، لكن ولأسباب يكثر عدها يبدو أن هذه التجربة لم تدم طويلاً.

ومن البديهي الوقوف عند مراحل تاريخية كان لها تأثير كبير في التحولات التي وصلت إليها هذه القوى.

بداية لا يمكننا التغاضي عن حالة الإحباط العارمة جراء الأداء السياسي بعد ربيع بيروت 2005، والانقسام العمودي للشارع اللبناني وشبه اختفاء المجال العام المختلف عن التكتلات السياسية الكبرى آنذاك. هذا الاحباط تم التعبير عنه بشكل واضح مع انطلاق الربيع العربي، من خلال التحركات العارمة تحت عنوان "إسقاط رموز النظام الطائفي".

 إن حالة الإحباط من مجمل الاحداث وضيق مساحات العمل السياسي، دفع كثر إلى الانخراط في تنظيمات المجتمع المدني، كالمنظمات المطلبية والحقوقية، وصولاً إلى تأسيس نقابات بديلة عن تلك التي هيمنت عليها السلطة. فقد أدرك الشارع اللبناني حينها أن العمل السياسي غير متاح إلا من خلال التكتلات الطائفية التي تقوم غالبيتها على سلطة "الزعيم" الفرد، وأن الانخراط في هذه الأحزاب هو كزيادة في أعداد القطيع، لان الأمر في آخر المطاف "له" تقدّس سرّه.

 لقد شكل قانون الانتخابات العتيد دافعاً جديداً لإعادة إحياء فكرة مشروع سياسي على مساحة الوطن، تكون فيه كافة الجماعات اللبنانية شريكة. ففي العقدين الأخيرين حرم أكثر من نصف اللبنانيين من أن يتمثلوا في الندوة البرلمانية بسبب القانون الأكثري الذي يختزل تلقائياً الكثير من الأصوات، فضلاً عن حجم الدوائر وغيرها من الممارسات التي لا توحي بأننا في ظل نظام ديمقراطي. الأمر الذي شكل إحباطاً للعديد من النشطاء السياسيين، ودافعاً للاعتكاف عن العمل السياسي. فكانت مساحات المجتمع المدني مجدداً مرنة لاستيعاب كل هؤلاء.

 اللافت اليوم، خصوصاً بعد الانتخابات البلدية الأخيرة، وظهور حركات احتجاجية واسعة على أداء الأحزاب السياسية وانتشار هذه الاحتجاجات على كافة المستويات الوطنية والمحلية واستجابة الشارع لها، أن أصوات الناخبين كانت معياراً لتبدل مزاج الشارع ورفضه العيش بين أكوام النفايات، كرد فعل على حال القهر العتيق منذ الحرب الأهلية وما قبلها. والمضحك المبكي هنا، أن الطبقة السياسية المفسدة والفاسدة لم تتحمل حقيقة أنها السبب الأول والأخير لهذا الوجع والقلق المتراكمين، فأرسلت ميليشياتها فقط في اللحظة التي أطلق فيها شعار "كلن يعني كلن".

 يفرحني أن أشهد على تأسيس مزاج سياسي جديد غير معقد إيديولوجياً يقوم في بعض الأحيان على قدرة وصلابة الناشط السياسي الفرد، لكنه في أماكن أخرى يسعى إلى تشكيل قوة مشتركة في وجه رموز الفساد. لقد سعى المفسدون من خلال أدائهم السياسي إلى مأسسة الفساد، وأفرغوا الدولة من قيمها الأساسية وساهموا عن غير علم في تأسيس حركة احتجاج تكبر للتحول إلى كيانات سياسية، وحدهم المطالبون بالدولة المدنية لن تزعجهم هذه الكيانات.

لقد نجحت هذه الكيانات من خلال رموزها في تقديم نفسها بشكل لائق ومحترم، مستندة إلى حد كبير إلى نجاحها المهني وتاريخها في النضال ضمن أطر المجتمع المدني المتنوعة. وتفاعل الناس في المناطق مع هذه الأسماء يبدو أنه يبشر بمعركة انتخابية لن تكون سهلة على أهل السلطة في كافة الدوائر. والأهم أن هناك احتمالاً كبيراً لوصول مجموعة من النواب إلى الندوة البرلمانية من خارج السرب المعهود لأحزاب السلطة، وهو أمر ستسعى كافة القوى على التخفيف منه، إن لجهة التخوين والشيطنة، أو لجهة شد عصب الطائفة وتمثيلها، وهي أمور متوقعة أرجو أن تكون في حسابات الجميع.

ان كل ما ذكرناه لا يتعدى كونه إما تحليلاً للمسار العام، أو متابعات عن بعد فيها الكثير من التمنيات، وهو كذلك لأني مقتنع بدوري كناشط في المجتمع المدني ليس أكثر، ولا رغبة لدي في الوصول إلى السلطة، غير أنني كمواطن وناخب، سأقوم بممارسة حقي وأنتخب للمرة الأولى بورقة غير بيضاء، إذا توفر في دائرتي مرشحون\ات برؤية سياسية تنسجم مع تطلعاتي. وعليه فإنني أحترم وأشجع أصدقائي وزملائي الراغبين بالانخراط في العمل السياسي المباشر أن ينخرطوا بكل قوتهم، وأن لا يضيعوا الفرصة التي قد لا تتكرر في القريب العاجل، وأدعوهم إلى أن يثابروا على النهج الذي اختاروه لأنفسهم، وأن لا يظلموا هذه التجربة السياسية بأن يعودوا "للتلطي" برداء المجتمع المدني فيظلموه مجدداً. خصوصاً الموسميين منهم، الذين يتذكرون العمل السياسي في مواسم الانتخابات فقط، وهم في أساريرهم غير جديين في الخطوات التي يخطونها.

تكمن الإشكالية الأساسية هنا في أمرين رئيسيين، الأمر الأول هو زيادة الالتباس حول الأدوار التي يمكن أن يلعبها كل من النشطاء السياسيين وتنظيمات المجتمع المدني، وهذا الالتباس يصيب أولاً النشطاء أنفسهم، فكيف بالرأي العام! وتقع مسؤولية الجميع هنا في توضيح هذا اللبس من أجل تفعيل آليات المحاسبة بداية والاشتباك الإيجابي أينما أمكن. أما الأمر الثاني فيتجلى بأهمية تقوية التجربتين على حدة وبشكل ندّي، فلا يجوز استغلال الجهود والموارد التي تكرسها تنظيمات المجتمع المدني من أجل غايات سياسية، تحول المجتمع المدني من إطار يعمل باستقلالية وبحسب منظومة القيم التي يلتزم بها، إلى أداة للوصول إلى السلطة. وفي التاريخ السياسي الحديث للبنان العديد من الأمثلة الشبيهة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا المجال، وهذا الأمر حتماً سيؤثر على تطور ونضوج التجربة السياسية الواعدة.

إن التنقل بين العمل السياسي الساعي إلى السلطة وبين عمل منظمات المجتمع المدني والتي تسعى إلى الدفاع عن حقوق أفرادها من سوء سلوك السلطة، هو أمر مضر بالقطاعين، وهو مؤذٍ بشكل كبير للمجتمع المدني، خصوصاً أنه موضع اتهام وتشكيك من قبل الجميع. علماً أن المجتمع المدني اللبناني هو أكثر شفافية وديمقراطية من الدولة، أي دولة.

(أحمد مروة)