يتفق متابعون على أنه لم يكن من المتوقع أن يتدحرج التصعيد الاحتجاجي على إساءة الوزير جبران باسيل إلى الرئيس نبيه بري، إلى هذا المستوى. فلّتت الأمور من عقالها، وخرجت بعض التحرّكات عن السيطرة. حتى بدأ البحث في الكواليس السياسية، عن الخلفيات المتشعبة لهذه التحركات، ولصراع النفوذ. تقول شخصية واسعة الاطّلاع إن ما جرى يوحي بما لا شك فيه بأن الجميع أراد إيصال رسائل إلى الجميع. وهي تتخطى الردّ على الإساءة، إذ استعيد سريعاً خطاب الحرب، لا سيما بعد ما جرى في بلدة الحدت ليل الأربعاء الخميس.
وتعتبر الشخصية أن بري أراد إيصال رسائل تحذير إلى خصومه وحلفائه، بأنه القوة التي لا يُستهان بها، وبأنه غير قابل للتنازل عن أي من مكتسباته وحقوقه، وأراد أن يصرف ذلك في الانتخابات المقبلة، وفي معركة رئاسة المجلس وتشكيل الحكومة في مرحلة ما بعد الانتخابات. لكن رسائل بري وصلت في اليوم الأول للتحركات، وبعده دعت أمل الجميع إلى التزام الهدوء. ليبقى السؤال الأساسي عمن حرّك الشارع لاستباحة وسط بيروت، واستباحة الحدت فيما بعد؟
وتعتبر المصادر أن بري متضرر من هذه التحركات التي لصقت باسمه، وقد سارع مسؤولو أمل إلى نفي أي علاقة لها بما يجري، مشيرين إلى أن هناك من أراد استغلال هذه اللحظة، لإدخال عامل عدم الاستقرار إلى الساحة اللبنانية. ولا يفصل المسؤولون الحركيون ما جرى، بالدخول الإسرائيلي على خطّ الأزمة، والذي تجلّى بكلام أفيغدور ليبرمان عن النفط والبلوك رقم 9.
يعتبر الحركيون أن الدخول الإسرائيلي على الخطّ في ظل الأزمة الحالية، قد يتيح لتل أبيب إعادة خلط الأوراق على أكثر من صعيد، منذ أن بدأت بذلك مع عملية استهداف أحد كوادر حركة حماس، والتي على ما يبدو أنها ستشكّل محطّة أولى ضمن سلسلة عمليات في الساحة اللبنانية. كما أن إسرائيل تريد استثمار ذلك، في مجالات أخرى، عبر التسرّب من الانقاسامات اللبنانية التي ستنعكس تأخراً على ملف النفط وغيره، لعلّها تكمل مساعيها في السيطرة على النفط اللبناني. وهذه المرّة علناً، وبما لا يُخفي حجم الاستثمار في الأزمة، مع مسعى لاستدراج للبنان إلى مواجهة سياسية قد تتطور إلى عسكرية.
وسط هذه الحسابات، هناك من يعطي أبعاداً أوسع للصراع المستجد بين بعبدا وعين التينة، إذ تصف الواقع بأن هناك تنافساً بين أمل والتيار الوطني الحر على من يرضي حزب الله أكثر، ومن يثبت وجوده بفاعلية، ليبقى محافظاً على استمالة الحزب إليه. في المقابل، هناك من يعارض وجهة النظر هذه ويعتبر أن بعض تحرّكات باسيل لا تنفصل عن الضغط الدولي وخصوصاً الأميركي على حزب الله ولبنان، وبعد زيارة الموفد الأميركي للبحث في كيفية تشديد العقوبات على الحزب وتضييق الخناق عليه مصرفياً.
لا شك أن المحاولات الإسرائيلية لاستدراج حزب الله إلى مواجهة مستمرّة، وتتنفّس من رئة التصعيد الأميركي تجاه إيران، لكن حتى الآن تتعاطى طهران وحزب الله بروية وحنكة مع هذه المحاولات، لتجنّب الدخول في مواجهة مفتوحة، أو في معركة عسكرية قد تقلب الأمور رأساً على عقب في لبنان والمنطقة. ويتضح ذلك من سياق تصريحات المسؤولين الإيرانيين وقادة الحزب. ولا شك أيضاً أن خطاب الحرب الذي سمع في ليل الحدث الأسود، هو أكثر ما يفيد الإسرائيليين، ويتيح لهم إعادة إنتاج سياسات قديمة. هذا ما قرأه حزب الله بشكل واضح، وبدأ بالعمل بشكل جدّي لإيجاد حلّ للأزمة بين بري وباسيل، إنطلاقاً من مبدأ وجوب التوحّد أمام دخول ليبرمان على خطّ النفط. وهذا ما سيسعى لبنان إلى مواجهته في مجلس الأمن وأمام المحافل الدولية.
وقد انعكس ذلك إيجابية أولى، على خطّ تبريد الأجواء، من خلال مبادرة الرئيس عون إلى الاتصال ببري، وتهدئة خاطره. وتقول المصادر إن الاتصال ركّز على ضرورة الحفاظ على الاستقرار ومنع أي محاولة لهزّه أو لاستغلاله من قبل أي طرف، على أن تتم معاجلة الأزمة بالسياسة، والتي اعتبر بري أنها ستكون طويلة، لكنه أعطى توجيهاته لوقف الحملات الإعلامية. كما عبّر عن خشيته من دخول طابور خامس على الخط. وتفيد مصادر "المدن" أن الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، قد تدخّل على خطّ تبريد الأجواء، وأجرى اتصالاً بكل من عون وبري، وحثهما على ضرورة التقارب ووقف التصعيد، وإجراء مصالحة في الحدت لإزالة تداعيات ما حصل، بالإضافة إلى البحث في عقد لقاء بين الرئيسين الأسبوع المقبل، وإيجاد مخرج لتراجع باسيل عن كلامه. وكذلك الحريري الذي عمل على إقناع عون بالاتصال ببري.