الجدل الحاد الدائر هذه الايام بين السوريين، على اختلاف تشكيلاتهم الموالية والمعارضة حول وقائع مؤتمر سوتشي وغرائبه ونتائجه، لا يخفي حقيقة جوهرية هي ان روسيا تعرضت لهزيمة سياسية حاسمة، تشكل ترجمة عملية للضربة العسكرية الحرجة التي تلقتها في السادس من الشهر الماضي عندما شنت جهة "مجهولة" غارتين جويتين بطائرات "درون" على قاعدتيها العسكريتين، الجوية في حميميم والبحرية في طرطوس، أصابتا الهيبة الروسية في الصميم، وهزتا المكانة الروسية في سوريا، بل وفي العالم كله.
إتسم الجدل السوري بالطرافة، والشماتة، وبدا أشبه باللهو السياسي، الذي يبني على المكان والزمان ، وعلى الحضور والغياب، وعلى الإهتمام والازدراء، أسباباً للفرقة والنزاع ، والتنافس في التعبير عن موقف مرتجع من روسيا ودورها السوري الذي يقف اليوم عند مفترق حاسم..يمكن تلمسه بوضوح شديد في مؤتمر سوتشي، الذي كادت موسكو نفسها تتخلى عن فكرة إنعقاده في إعقاب الهجوم على قاعدتيها العسكريتين في سوريا.
لم يسفر الجدل عن أي فرز جديد للقوى السورية، مثلما لم يؤد الى إنتظام التحالفات والخصومات، وبدا ان أحداً من طرفي الصراع السوري لم يلاحظ حراجة الموقف الروسي. فالنظام الذي أغرق المؤتمر بالحضور الاستعراضي الكثيف، كان يحاول التوكيد على حيازته غالبية سورية. والمعارضة التي قاطعت، كانت تسعى الى التعويض عن خساراتها العسكرية بالإحتفاظ بشرعيتها السياسية. اما نصف الحضور الذي إلتزمته تركيا وحلفاؤها فقد كان بمثابة وقوف في منتصف الطريق بين موسكو وعفرين.
الخلاصة الأهم لمؤتمر سوتشي كانت وستبقى هي ان روسيا نفسها فقدت حماستها لذلك المحفل السوري الغريب، قبل ان يحين موعد إنعقاده، بعدما أدركت ان مشروعها السوري بات يصطدم بجدار مسدود، يمكن هدمه بالمزيد من الغارات الجوية والصواريخ العابرة للقارات، لكن لا يمكن القفز من فوقه للاعلان عن إنتصار عسكري -سياسي ما زال بعيداً، ولعله أصبح مستحيلاً في أعقاب الغارة على القاعدتين الروسيتين في سوريا.
والطريف أنه بينما كانت المجموعة الاتية من طرف النظام لتغزو المؤتمر وتكتسح قاعته تهتف لروسيا وبوتين، كان الجانب الروسي يعترف بتواضع طموحاته، وتراجع نفوذه، ويقر بأن المؤتمر لم يعد إنقلاباً على مسار جنيف الدولي، ولن يكون بديلاً منه..ويسلم بأن اللجنة الدستورية التي شكلت هي مجرد ترجمة لقرارات جنيف، سيتولى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا نفسه تشكيلها وتنظيم عملها وقيادة مهامها.
وبهذا المعنى ، كان المؤتمر أول إعتراف روسي صريح بالفشل في إدارة الصراع السياسي السوري. ومثلما لم يكن بإمكان موسكو مواصلة التباهي بالانتصارات العسكرية الاخيرة على الارض السورية في أعقاب الإغارة على القاعدتين الروسيتين، اللتين تمثلان العنوان الاهم للحضور الروسي في شرقي المتوسط.. لم يكن بمقدور موسكو ان تتقدم بمشروعها الخاص للحل السياسي السوري، الذي كانت ترغب قبل أسابيع قليلة في أن يقوم على إجبار المعارضة على رفع راية الاستسلام لنظام الرئيس بشار الاسد.
لكن المؤتمر ليس نهاية الدور الروسي في سوريا. الإغارة على القاعدتين كانت بمثابة إنذار لموسكو بان التفويض الدولي الذي مُنح لها من أجل المساهمة في جزء من معركة التخلص من "الإرهاب الاسلامي"في سوريا، قد إنتهى، وثمة حاجة الى كبح جماح بوتين وجنونه المبني على أن حملته العسكرية والسياسية السورية ستفرض على خصوم روسيا الإعتراف مجددا بروسيا كدولة عظمى ذات مصالح تحظى بالاحترام في شرقي المتوسط وفي بقية أنحاء العالم.
في سوتشي بدا ان روسيا صارت مكشوفة، من دون شركاء أو حلفاء. قاطع الغرب المؤتمر، وغاب العرب، وترددت إيران في مباركة ذلك الاستعراض السياسي الروسي، وجاملت تركيا بحضور متواضع ومشروط. وقد يكون "حضور" إسرائيل الذي تمثل في زيارة رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو الى الكرملين بالتزامن مع إنعقاد المؤتمر ، هو الدليل الوحيد على أن روسيا لم تخسر تفويضها السوري بشكل نهائي بعد.