حملت الكلمة التي ألقاها الرئيس الإيراني حسن روحاني من أمام مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية روح الله الخميني دلالات ورسائل عديدة تبدو في ظاهرها انتقادا لسياسات النظام وتحذيرا له بأن سياسته الحالية قد تجعل مصيره مثل مصير الشاه الذي انتهى في مثل هذه الأيام.
لكن تستبطن بين سطورها أكثر من ذلك حيث تكشف خلافات الرئيس مع الحرس الثوري عقب تصريحات سابقة للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي انتقد فيها روحاني، ومن خلال مساعي الدولة العميقة بجعل الحكومة برئاسة روحاني كبش فداء بعد حالة الغضب الشعبي الذي عم البلاد أواخر عام 2017 احتجاجا على النظام وخياراته السياسية والاقتصادية، وصولا إلى ما يجري في الكواليس من جدل حول صحة خامنئي واختيار خليفته.
جاءت كلمة روحاني في أول أيام “عشرة الفجر”، وهي الأيام التي شهدت أبرز تفاصيل الثورة في إيران، التي تستهل في الأول من فبراير وهو يوم وصول روح الله الخميني من باريس وتنتهي في العاشر من نفس الشهر، يوم إعلان تأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران (1979).
يطرح ربط روحاني المتعمد بين المسار الحالي لنظام ولاية الفقيه ومصير الشاه دلالات عديدة ترتبط بتأثير الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت في إيران على توازنات القوى في الداخل وموقع رئيس الجمهورية فيها.
يريد الرئيس من خلال ذلك اتباع نهج متوازن بين تأكيد ولائه للنظام، من خلال تجديد العهد للخميني، ومحاولة إشراك المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي والحرس الثوري في تحمل مسؤولية الأزمات المتلاحقة التي تشهدها إيران باستمرار.
يريد حسن روحاني إتباع نهج متوازن بين تأكيد ولائه للنظام،وبين محاولة تحميل المرشد مسؤولية الأزمات المتلاحقة
يعود ذلك في الأساس إلى أن النظام حاول تحميل حكومة روحاني وحدها مسؤولية نشوب الاحتجاجات الأخيرة، بالتوازي مع اتهامه للمحتجين بـ”العمالة للخارج”، خاصة بعد الدعم الذي أبداه الرئيس الأميركي دونالد ترامب للاحتجاجات في مناسبات عدة.
سواء أكان معتدلا أم متشددا، فإن حسن روحاني ابن نظام ولاية الفقيه ولا يمكن أن يتمنى له مصيرا مثل مصير الشاه، ولئن بدت تصريحاته انتقادا لسياسات النظام، حيث يقر بأن الأسباب الحقيقية لتلك الاحتجاجات لا تكمن في الإجراءات الاقتصادية التي لم تحظ برضى شعبي، كما حاولت الآلة الإعلامية للنظام الترويج له، وإنما تعود إلى إصرار النظام على اتباع نفس استراتيجيته الحالية.
تقوم هذه الاستراتيجية على استنزاف الموارد الوطنية في دعم النفوذ الخارجي، حتى لو كان ذلك على حساب مواجهة مكامن الخلل في الداخل التي يمكن أن تفجر أزمة حادة قد لا يستطيع النظام احتواءها في المستقبل على غرار ما فعله إزاء الاحتجاجات الأخيرة.
ويبدو أن الرئيس استجاب لنصائح مستشاريه والمقربين منه بضرورة رفض المقاربة التي تبناها النظام تجاه الاحتجاجات، وعدم السكوت على محاولات الأخير التملص من مسؤوليته عنها.
ماكيافيلي طهران
كان لافتا أن تعمد روحاني التذكير بمصير الشاه جاء بعد أيام قليلة من تأكيده على أن “للإيرانيين الحق في انتقاد جميع المسؤولين دون استثناء”، في إشارة إلى أن خامنئي ليس استثناء، وعلى أن أسباب الاحتجاجات ليست اقتصادية فقط، بما يعني أن دوافعها الحقيقية ترتبط بسياسات النظام وليس بإجراءات الحكومة.
وقال روحاني”الجميع يمكن انتقادهم، ونحن في بلد لا يوجد فيه معصوم، وإذا ظهر الإمام المهدي فإنه يمكن الانتقاد في ذلك الوقت أيضا”. ودفعت هذه التصريحات المحافظين إلى شن انتقادات حادة ضد الرئيس واتهموه باتباع “سياسة ماكيافيلية” ونصحوه بعدم الخوض في هذا الحديث مجددا، وبالاهتمام بمعالجة المشكلات الاقتصادية التي تواجه المواطنين، على غرار ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم.
وهنا، فإن المقصود من ذلك ليس الأئمة وإنما المرشد خامنئي، بما يعني أنهم يحاولون ممارسة ضغوط على الرئيس من أجل عدم التطرق مرة أخرى إلى سياسات صاحب المنصب الأهم في النظام.
فضلا عن ذلك، توحي محاولات روحاني الربط بين مصير الشاه ومستقبل النظام الحالي بأن الرئيس يسعى إلى توجيه رسائل تفيد بأن كلا النظامين كانا يتبنيان سياسة متشابهة تمثلت أبرز محاورها في محاولات التمدد في الخارج على حساب معالجة أزمات الداخل، وإن اختلفت الآليات التي استند كل منهما إليها في تحقيق ذلك.
روحاني قد يسعى إلى استغلال الاحتجاجات من أجل الضغط لحسم ملف الإقامة الجبرية المفروضة على مير حسين موسوي ومهدي كروبي العالق
بعبارة أخرى، فإن الرئيس يسعى إلى تأكيد أن إصرار النظام على الإمعان في تعزيز مساعيه للتمدد داخل بعض دول المنطقة وتوسيع نطاق نفوذه عبر تأسيس علاقات قوية مع بعض الميليشيات الإرهابية والمسلحة والجماعات المحلية الموجودة فيها، يمكن أن يفرض تداعيات وخيمة على الداخل. لكن ذلك لا يعني أن روحاني يحاول من خلال ذلك ممارسة ضغوط من أجل التوقف عن اتباع تلك السياسات في المرحلة القادمة؛ إذ لا توجد مؤشرات توحي بوجود فارق كبير في مواقف روحاني من سياسات النظام فيما يتعلق بدعم الحلفاء في المنطقة.
هدف روحاني يكمن في محاولات تقليص مستوى هذا الدعم، وليس وقفه، بشكل يمكن أن يساعد الحكومة على تنفيذ برامجها الاقتصادية التي وعدت بها والتي ساهمت في فوز الرئيس الحالي بولاية رئاسية ثانية.
يدرك روحاني أن وقف هذا الدعم لا يبدو احتمالا قائما، في ظل تعويل النظام عليه في تعزيز جهوده للتمدد في المنطقة وتكريس تدخلاته في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.
هذا فضلا عن أن روحاني نفسه عبر أكثر من مرة عن تأييده لسياسة النظام إزاء الصراع في سوريا واليمن تحديدا، وهو ما يفسر إقدام حركة الحوثيين على إطلاق صواريخ باليستية عديدة باتجاه الأراضي السعودية.
الملفات الشائكة
لا يمكن استبعاد أن يتجه روحاني خلال المرحلة القادمة إلى محاولة استثمار الضغوط التي أنتجتها الاحتجاجات من أجل فتح بعض الملفات الشائكة التي تحظى باهتمام خاص من جانب أنصاره داخل تيار المعتدلين.
ويمثل ملف الإقامة الجبرية المفروضة على مير حسين موسوي ومهدي كروبي، قائدَيْ حركة الاحتجاجات على نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في عام 2009، أحد أهم تلك الملفات التي سببت إحراجا كبيرا للرئيس داخل أوساط التيار المؤيد له، بسبب عزوفه عن الخوض فيه الفترة الماضية.
وهنا، فإن روحاني قد يسعى إلى استغلال الاحتجاجات من أجل الضغط لحسم هذا الملف العالق، باعتبار أن ذلك يمكن أن يدخل في نطاق “الاستماع إلى مطالب المواطنين” وقد يساهم، وفقا له، في تقليص حدة الاحتقان القائمة حاليا على الساحة الداخلية.
وبمعنى آخر، فإن إحدى رسائل روحاني من الربط بين مصير الشاه ومستقبل النظام الحالي أن إصرار الشاه على قمع معارضيه كان سببا رئيسيا في الإطاحة به.
يستند روحاني في هذا السياق إلى أن كلا من موسوي وكروبي، إلى جانب الرئيس الأسبق محمد خاتمي، ينتمون إلى التيار الذي ما زال مواليا للنظام ولم ينشق رغم الإجراءات التعسفية التي اتخذت تجاههم منذ فبراير 2011، ورغم الانتقادات التي يوجهونها إلى سياساته.