هناك أسباب كثيرة يمكن أن يلجأ إليها المحللون لتفسير هذا الانفلات الذي يشهده لبنان في الألسنة والشارع ومواقع التواصل الاجتماعي، سواء كان عنوان الأزمة التي يعيشها منذ 6 أيام الخلاف بين رئيسي الجمهورية ميشال عون والمجلس النيابي نبيه بري، أم كان خلافاً على الأدوار والمواقع الطائفية في السلطة بفعل تحوير الدستور واتفاق الطائف، أم كان محاولة لتأجيل الانتخابات النيابية بحجة تفادي الفتنة، أم كان استنفاراً طبيعياً للغرائز في التعبئة الانتخابية قبل الانتخابات النيابية في 6 أيار (مايو) المقبل، أم كان سعياً من بعض فرقاء الأزمة إلى تموضع جديد بالتناغم مع تطورات مرتقبة في المنطقة.
لكن المؤكد أن لبنان يحصد تداعيات إحدى نتائج قانون الانتخاب الجديد الذي أقر وسط الضجيج حول إصلاح عملية التمثيل السياسي والطائفي في البلد القائم على فسيفساء المذاهب والتناقضات في مصالح الجماعات التي يتكون منها. فالقانون جاء هجيناً باسم تصحيح التمثيل المسيحي في البرلمان، تعويضاً عما انتقصت منه الوصاية السورية طوال عقدين ونيف.
باسم تصحيح التمثيل هذا، شرّع القانون الجديد القائم على النسبية ابتعاد الطوائف عن بعضها بعضاً عبر ابتداع تقسيم جديد للدوائر الانتخابية. وشرّع أيضاً عبر بدعة الصوت التفضيلي الواحد للمرشحين، والقائم على النظام الأكثري الطائفي والمناطقي، أن يغدر الحليف بحليفه في اللائحة الواحدة، وسمح باعتقاد عدد من القادة المسيحيين ولاسيما الموارنة، أن بإمكانهم الاستغناء عن الحاجة إلى التعاون مع السنة في بعض المناطق، وبعدم حاجتهم إلى أصوات الشيعة في مناطق أخرى. وأوهم هؤلاء بالقدرة على تخطي التعاون مع الدروز. وإذا كانت التعبئة الانتخابية تقوم على هذا الواقع، فإن هذا وحده كفيل باستمرار الأزمة حتى الانتخابات. أما الانطباع القائل إن الرئاسة المسيحية وامتداداتها في المؤسسات ستسعى إلى استرداد موقع القوة الذي تمتع به المسيحيون في التركيبة اللبنانية قبل اتفاق الطائف، فإنه سيقود إذا صح أن هذا هو الهدف، إلى استمرار الأزمة إلى ما بعد الانتخابات حيث يمكن أن نشهد خلطاً للأوراق في التحالفات السياسية والطائفية في ظل ريبة الثنائي الشيعي من تعاون مسيحي- سني، لتقليص سلطة المواقع الشيعية التي حققت مكتسبات في ظل الوصاية السورية ثم تحت كنف فائض قوة «حزب الله»، لا سيما بعد الانسحاب السوري بسبب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. فخطاب الوزير باسيل يقوم على فلسفة استعادة الحقوق المسيحية التي يعتقدها مسلوبة، بطريقة عبثية، فيعتبر رئاسة العماد عون للجمهورية بداية لاستعادتها. ويذهب إلى حد تطييف إقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي الدولة وأساتذتها وعسكرييها. فهو اعتبر أن إقرارها يرمي إلى تشجيع المسيحيين على الدخول إلى ملاك الدولة، على رغم أن المستفيدين من السلسلة هم المسلمون العاملون في القطاع العام أسوة بالمسيحيين، وربما أكثر!
يحصد الثنائي الشيعي نتائج إصرار «حزب الله» على رئاسة عون للجمهورية بعد أن عطل انتخاب الرئيس سنتين ونصف السنة، على رغم أن بري كان ضد هذا الخيار. فالحزب تبنى نظرية الرئيس القوي لتبرير إصراره على أحقية عون بالرئاسة لاستعادة الشراكة المفقودة لسبب آخر، هو الشرعية المسيحية التي أصبغها بتحالفه مع الحزب على وظيفته الإقليمية بكل تعقيداتها وأضرارها الداخلية والخارجية على البلد، لاعتماده منصة لهذه الوظيفة. وهذا الحصاد يشمل قوى أخرى تبنت خيار الرئيس القوي، كلاً على قياسه.
والأسابيع المقبلة ستكشف إذا كان رئيس الحكومة سعد الحريري سيحصد بدوره مفاعيل تبنيه ترشيح عون، نتيجة الأزمة الراهنة تعطيلاً لما أمل به من استعادة دور الرئاسة الثالثة في إطلاق مرحلة جديدة باستعادة الثقة وإعادة تحريك المؤسسات وتصحيح الاقتصاد في المؤتمرات الدولية المنتظرة لدعم لبنان.
وفي المقابل يحصد الرئيس عون وفريقه، (والمسيحيون سواء كانوا معه أم ضده)، نتائج قبوله بأسلوب الاعتراض في الشارع كالذي شهدناه في الأيام الماضية، قبل سنوات، عندما اشترك «التيار الوطني الحر» مع قوى 8 آذار بقيادة «حزب الله» في احتلال أسواق بيروت لسنة وزهاء 7 أشهر، للاعتراض على المحكمة الدولية وضد قوى 14 آذار، ومن أجل فرض ترشيح الجنرال للرئاسة الأولى في حينها. وهو أسلوب التحرك الذي ابتدع عون له شعار «سنحتاج إلى أقدامكم» على الأرض حين كان يخاطب مناصريه لاستنفارهم من أجل التظاهر لتحقيق الشراكة المتلازمة بعرفه مع رئاسته هو من دون غيره.
هناك من يعتقد بأن رجال العهد يتحسبون لمرحلة إقليمية جديدة تشمل انحساراً للدور الإيراني نتيجة العقوبات الأميركية والخليجية المتشددة ويتموضعون استباقاً له... ولهذا حسابات أخرى.