مرة جديدة تثبت شرائح واسعة من الشعب اللبناني بجناحيها الإسلامي والمسيحي أنها لا زالت أسيرة عوامل الجهل والتخلف والغباء ومسكونة بموروثات طائفية ومذهبية بغيضة وحقد دفين وتنقاد كقطعان الأغنام بل هم أضل سبيلًا، وتتحرك بغريزة الغيرة على الدين وطرح الصوت وراء زعامات مصطنعة، فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع تحت شعارات براقة عنوانها حماية حدود الحظيرة والحفاظ على حقوق من فيها وذلك بعد توافق أرباب الحكم على تقسيم الوطن إلى مزارع وتقاسم خيراته وموارده ومؤسساته في ما بين زعماء الطوائف والمذاهب واعتبارها كغنائم تم الاستيلاء عليها بالمعارك والحروب والارتهان للخارج وليس على قاعدة الحرص على البلد والمواطنة والكفاءة والخبرة والنزاهة.
إقرأ أيضًا: إتفاق الطائف في مهب الريح ... سعي الثنائي الشيعي لتكريس المثالثة
وما شهدته معظم الشوارع في العاصمة بيروت وضواحيها وبعض المناطق في البقاع والجنوب في الأيام القليلة الماضية من قطع طرقات وإشعال دواليب وإطلاق الرصاص العشوائي نشطت ذاكرة اللبنانيين وعادت بهم إلى سنوات الحرب الأهلية التي حصدت منهم مئات آلاف القتلى والجرحى لانخراطهم في ميليشيات وتنظيمات مذهبية مسلحة تمارس نشاطها العسكري وفق أجندات خارجية، ويقودها زعماء وقادة لهم ارتباطات بمشاريع إقليمية ودولية فساهموا بتدمير البلد وتخريب اقتصاده وضرب مقومات الحياة الإجتماعية والسياسية فيه دون وعي وفي الغالب عن وعي وعن سابق تصور وتصميم فتحولوا إلى أدوات منفذة وإلى وقود لهذه الحرب يقتل بعضهم بعضًا إرضاءًا لزعيم الطائفة أو المذهب الذي استغل جهلهم وبساطتهم وفقرهم، فارتقى على جثثهم لبلوغ المناصب العليا وجمع الثروات المشبوهة والتسلط عليهم ومصادرة قرارهم وحريتهم بدعوى الحفاظ على حقوق الطائفة التي ينتمون إليها وحماية المعتقدات والمبادىء التي يقدسونها وعلى الموروثات التي لا يجوز المس بها والتي يحرم الإقتراب منها.
وعليه فإن الطفل المعجزة والمراهق السياسي والوزير السوبر لوزارة الخارجية والمغتربين الصهر المدلل جبران باسيل والذي من المفترض أن يكون رئيس الدبلوماسية اللبنانية في الخارج أثبت عن جدارة بأنه فاقدًا للحد الأدنى من الدبلوماسية في التعاطي مع شركائه في الوطن ويفتقر إلى أبسط السلوكيات الأخلاقية في ممارسة صلاحياته في الداخل، فكيف تبدو معه صورة لبنان في الخارج وهو يمثله في المنتديات الدولية؟
فالكلام العنيف لباسيل بحق رئيس المجلس النيابي نبيه بري ووصفه بالبلطجي وتهديده بتكسير رأسه جاء امتدادا للخلافات القديمة والواضحة حيال الكثير من القضايا بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس مجلس النواب حتى قبل الإنتخابات الرئاسية.
وهذه الخلافات التي بدأت تتوسع يوما بعد يوم وتترسخ في العلاقات بين الرئيسين ظهرت مؤخرا واضحة للعلن منذ ما يقارب الشهرين على خلفية مرسوم الضباط لدورة 1994 الذي وقعه رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء سعد الحريري واعترض عليه الرئيس بري، وبلغت مداها الأقصى بعد إطلاق باسيل قنبلته المدوية والتي من الممكن أن تضرب أي وساطة ممكنة بين الطرفين.
إقرأ أيضًا: الديمقراطية التوافقية أهم مساوىء النظام اللبناني
وبالتالي فإن تصريح باسيل الذي شكل صدمة للجميع لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمر مرور الكرام وكغيمة صيف، ذلك أنه وبالتأكيد سيترتب عليه تداعيات سلبية واضحة على مجمل الأوضاع السياسية والإقتصادية وعلى عمل الحكومة وعلى التسوية برمتها، سيما وأنها ليست المرة الأولى التي يتطاول فيها جبران باسيل ويوجه كلاما جارحا لمقامات كبيرة في البلد، فقد سبق أن شن هجومًا غير لائق وفيه قلة إحترام وتهذيب إلى الرئيس تمام سلام أمام وسائل الإعلام خلال إحدى جلسات مجلس الوزراء التي كان يرأسها في السراي الحكومي.
ورأت مصادر نيابية في هذا السياق أنه لا يمكن الإستمرار على هذا المنوال خصوصا في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة، إذ أن البلد لا يستطيع أن يتحمل أي خضات سياسية قد تتحول إلى هزات أمنية يكون الجميع فيها خاسرًا، بحيث يدفع لبنان ثمن هذا الإختلاف.
سيما وأن ملامح هذه الاهتزازات الأمنية بدت في التعبئة الشعبية التي انفجرت في الشارع بقطع الطرقات وحرق الدواليب وغيرها من أعمال الفوضى والشغب.
وإذا كانت العوائق التي تحول دون وصول الوساطات المبذولة لإنهاء الأزمة بين الرئيسين ناشئة على خلفية إصرار البعض على توظيف الخلاف لشد عصب ناخبيه وجمهوره، فإنه من الخطأ القاتل أن يتحول الشعب اللبناني إلى عصابات ومجموعات تهرول وراء قيادات إستغلالية ووصولية وإلى أحجار على رقعة الشطرنج الممتدة على مساحة البلد وتتحرك بالغرائز والتعصب الأعمى ارضاءًا لهذه الزعامات وتحويلها إلى أرباب لطوائفها ومذاهبها، فيما الوطن يضيع في حسابات المتاجرين به وبمستقبل أبنائه.