كان مؤتمر سوتشي قد تحوّل معركة صامتة ومموّهة بين الولايات المتحدة وروسيا، قبل أن تصبح علنية، لكنها بقيت ديبلوماسية، إذ لم يكن الأميركيون على مستويات متفاوتة يخفون أنهم يريدون «إفشال سوتشي»، ولماذا؟ لأنه يراد منه تكريس الاحتكار الروسي لحل الأزمة وفقاً للأفكار والأهداف التي حدّدتها موسكو وراعت فيها مصالح إيران. كانت ترغب في أن يعامل تركيا بالمثل، واستخدمت معركة عفرين في هذا السياق، إلا أن خلافات الدولتين على أسس الحل لم تتغيّر. لذلك بقيت أنقرة في هذا الملف أقرب الى التحالف مع واشنطن في العمل على «انتقال سياسي» في سورية، فيما بقيت أقرب الى موسكو في معالجتها لما تعتبره تهديدات لأمنها القومي.
اتخذت «معركة سوتشي» وجوهاً عدّة، أهمها إفصاح الولايات المتحدة عن ملامح استراتيجيتها الجديدة بالنسبة الى سورية. وفيها شقّان رئيسيّان: الأول، الحفاظ على وجود مديد في مناطق الشمال الشرقي التي تشمل معظم محافظة الرقة وبعض نواحي دير الزور وريف حلب الشمالي، والإعلان عن إنشاء جيش من ثلاثين ألف جندي لـ «حراسة حدودها». والثاني، العمل من خلال مسار جنيف التفاوضي على انتقال سياسي حقيقي، ورفض أي مساهمة مع الحلفاء في عملية إعادة الإعمار ما لم يكن هناك حل سياسي قيد التطبيق... وما لبثت هذه الاستراتيجية أن لاقت عناصر ترفدها في السعي الفرنسي الى إيجاد «مجموعة اتصال» في شأن سورية، وجاء مؤتمر باريس لإطلاق «المبادرة الدولية لملاحقة المسؤولين عن الهجمات بالسلاح الكيماوي» برسالة تذكّر روسيا بأنها شريكة في اتفاق 2013 لتدمير الترسانة الكيماوية السورية، ما يجعلها مسؤولة عن استمرار النظام في استخدام مخزونه منها، بالتالي فإنه سيكون ملاحقاً على جرائمه أيّاً تكن سيناريوات إنهاء الأزمة.
على هامش هذا المؤتمر، تبلورت مجموعة الدول الخمس (الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والأردن) كصيغة مصغّرة ومستحدثة لمجموعة «أصدقاء الشعب السوري». وعلى رغم أن «اللاورقة» التي تبنّتها وسلّمتها الى المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، كأفكار لتسهيل مفاوضات جنيف وتحسين أدائها، شكّلت إطاراً لتجاوز عقبة «مصير الأسد»، إلا أنها لا تسلّم ببقائه بل تعتبره مشروطاً وموقّتاً. بل تطرح تقليص صلاحيات الرئيس في الدستور المقبل وتوسيعها بالنسبة الى رئيس الوزراء والبرلمان. وهو ما بدا أشبه بدعوة الى موسكو لتلاقي الدول الـ5 في منتصف الطريق، فلا مطالبة بـ «رحيل الأسد» مقابل توافق على حلّ سياسي يؤمّن خروجه ورموز نظامه من السلطة.
أما الرسالة الأوضح التي وُجّهت الى موسكو فمفادها أن مفاوضات جنيف وفقاً للقرار الدولي 2254 تبقى المسار الوحيد للبحث في الحل السياسي، أي أنه لن يُعتدّ بما يخرج عن مؤتمر سوتشي. فالدول الـ5 لم تشأ في النهاية أن تعرقل هذا المؤتمر على نحوٍ مباشر، إلا أن ضغوطها عليه أدّت الى خفض التوقّعات الروسية منه، حتى غدا الهمّ الرئيسي لموسكو أن تمرّر انعقاده وتحاول فرض وقائع تمكّنها من التأثير لاحقاً في مسار جنيف. ولا شكّ في أن موقف الدول الـ5 رفع أي ضغط تركي عن المعارضة السورية بل شجّعها على القرار الذي رجّحته مداولاتها منذ فترة طويلة فحسمت موقفها بمقاطعة سوتشي. وبطبيعة الحال، فإن عدم حضور المعارضة أغاظ الروس، الذين سهّلوا العملية التركية في عفرين واضطرّوا أيضاً للقبول بتغييب الأكراد إرضاءً لتركيا، التي اقتصرت مساهمتها في «إنجاح» سوتشي على تأمين حضور المجلس التركماني.
ظهر الغضب الروسي في التناقض بين القول إن عدم مشاركة المعارضة «لا يغيّر شيئاً» وبين تهديد من القاعدة العسكرية في حميميم بأن المقاطعة ستكون لها تداعيات على الأرض، وبالعودة الى الخيار العسكري. واقعياً تحوّلت التحضيرات لمؤتمر سوتشي الى كابوس كريه لموسكو، وصارت مقتنعة بأن هدفها الحقيقي من انعقاده قد اهتزّ. قبل ذلك، كانت هناك خلافات مع طهران والنظام اللذين أرادا أن يكون «الحل» بآلية مباشرة ومتفق عليها «بين الحلفاء»، لا في سوتشي ولا في جنيف. وعندما نوقش تشكيل لجنة لإعداد الدستور تُعلَن في نهاية مؤتمر سوتشي طلب النظام أن تكون حصّته 15 من 24 عضواً في اللجنة، كما طالب بأن يصدر تشكيل اللجنة بمرسوم رئاسي من الأسد. وأثار عدم الاستجابة امتعاضاً لدى النظام، الذي وسّط الإيرانيين، لكن الروس يريدون لجنة دستورية يديرونها هم وليس النظام. في غضون ذلك، كان هناك ما ينكّد على الروس، إذ إن القناة المركزية لقاعدة حميميم أجرت استفتاءً حول السؤال: ماذا تعني لك روسيا؟ صديقاً أم عدواً؟ ولم تتردد في نشر النتيجة التي أظهرت أن 78 في المئة يعتبرونها عدواً، إلا أنها علّقت مؤكّدة أن هذا لا يؤثّر في «الواقع الحقيقي» للعلاقات بل يعبّر عن «انخراط جزء كبير من الأوساط الشعبية في فكر التنظيمات المتطرفة». وكان واضحاً أن المشاركين في الاستفتاء لم يكونوا جميعاً من المعارضة بل كانت غالبيتهم من الوسط الموالي للنظام.
كان إصرار فلاديمير بوتين شخصياً على مؤتمر لـ «شعوب سورية» هو ما حفّز إدارة دونالد ترامب على حسم استراتيجيتها بتوجّهات أكثر وضوحاً من تلك التي اتّبعتها إدارة باراك اوباما. ويكمن الوضوح في خمسة أهداف حدّدها ريكس تيلرسون في خطابه في جامعة ستانفورد: 1) هزيمة تنظيمي «داعش» و «القاعدة» فلا يشكّلان لاحقاً أي تهديد. 2) حلّ الصراع بين الشعب السوري ونظام الأسد من خلال عملية سياسية تقودها الأمم المتحدة وفقاً للقرار 2254 و «أن تعمل سورية كدولة مستقرّة ومستقلّة وموحدة تحت قيادة ما بعد الأسد». 3) تقليص النفوذ الإيراني في سورية وحرمانها من حلم إقامة قوس (هلال) شمالي وجعل جيران سورية بمأمن من كل التهديدات (الإيرانية). 4) إيجاد الظروف التي تمكّن اللاجئين والمشرّدين داخلياً من العودة في شكل آمن وطوعي الى بلادهم. 5) خلو سورية من أسلحة الدمار الشامل (في إشارة الى أن واشنطن لم تتخلَّ عن وجوب «المساءلة والعدالة» إنصافاً لضحايا الهجمات الكيماوية).
وبالنسبة الى إدارة ترامب، فإن تقليص النفوذ الإيراني متلازم مع ضرورة «إنهاء سلطة الأسد وعائلته ونظامه» وفقاً لموجبات «ما بعد داعش»، ذاك أن الأسد ظنّ خطأً، وفق تيلرسون، بأنه «سيحافظ على السلطة (بعد سقوط حلب) من دون أن يعالج المظالم التي ارتكبها في حق الشعب السوري». ولعل ما تعتبره واشنطن أكثر خطراً لمرحلة «ما بعد داعش» أن لدى نظام الأسد «استراتيجية أبعد من البقاء في السلطة» وهي «اجتذاب العناصر الراديكالية في المنطقة واستخدامها لزعزعة استقرار جيرانه». وتستخدم واشنطن هذا الخطر لتبرير وجودها العسكري المديد في سورية، إذ إن أي فراغ سيكرر السيناريوات التي شهدها العراق بعد انسحاب اوباما غير المنظّم و «السابق لأوانه».
كرة جنيف ستبقى في الملعب الروسي بمعزل عما يسفر عنه مؤتمر سوتشي وعما تنوي موسكو استغلاله من مخرجاته للتأثير في مسار جنيف، الذي لا ترى الدول الـ5 منصة أخرى سواه للبحث عن حل سياسي. ما لا تقوله هذه الدول، لكنّ روسيا وحليفيها إيران والنظام يعرفونه، أن أي حل يعكس القرار 2254 «سيهيّئ لرحيل الأسد» واستطراداً سيشكّل خطراً على المصالح التي رتّبتها روسيا مع الأسد، وبتأكيد مصالح إيران، فالاستراتيجية الأميركية تعتقد أن «تقليص النفوذ الإيراني وطرده من سورية يعتمدان على أن تكون سورية ديموقراطية». والأمر الآخر الذي ستأخذه روسيا في الاعتبار هو أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لن يقدما أي مساعدات لإعادة إعمار أي منطقة خاضعة لسيطرة نظام الأسد، ولن يشجّعا العلاقات الاقتصادية بينه وبين أي دولة لكن «بمجرّد أن يتنحّى الأسد عن السلطة ستشجّع أميركا بكل سرور تطبيع العلاقات بين سورية والدول الأخرى».