شاء البعض أن «يصطنع المفاجأة» ممّا قاله الرئيس نبيه برّي «ما من داعٍ للقاء الرئيس سعد الحريري، فأخباره تصلني وأخباري تصله»، ليس لسبب بل ربّما لعلمهم أنّ النزاع محصور بين بعبدا وعين التينة، وجهلهم أنّ المشكلة بين عين التينة و«بيت الوسط» قائمة من قبل. وقد يصحّ القول إنّها قائمة منذ ما قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. وعليه، فما هي الدلائل؟
قبل أن يُسجّل بري على الحريري استعجاله توقيع مرسوم الأقدمية قبل ان ينتظر توقيع وزير المال علي حسن خليل، لم تكن العلاقة بين عين التينة و«بيت الوسط»، «سَمن وعَسل»، خصوصاً أنّ بري كان قد تبلّغ عبر قنوات موثوقة مفتوحة مع «بيت الوسط» بوعد قد قطعه الحريري «بقطع يده قبل توقيع مرسوم الأقدمية»، ولكنه لم يلتزم. فتراجع عن وعده ووقّعه بلا توقيع وزير المال وأحاله الى رئيس الجمهورية لتوقيعه، ومن بعدها أوقف نشره في الجريدة الرسمية.
وفي الكواليس والأوساط السياسية والنيابية، سيناريوهات عدة سبقت هذه الأحداث وتلتها، ما زالت طي الكتمان بمعزل عن مصير المرسوم. فقد جرى تعميمه وأدرج مضمونه على إضبارات الضبّاط المستفيدين منه، وبات أمراً واقعاً ليس خافياً على كثير من المسؤولين، وهم يعرفون الكثير من تفاصيل المناقشات التي دفعت الى ادراج الترقيات وما قال به المرسوم على الإضبارات الشخصية للضباط المستفيدين، وهو ما أشارت اليه دوائر القصر الجمهوري اكثر من مرة من خلال التأكيد انّ المرسوم لم يعد موضوع نقاش وليس مهماً ان ينشر ام لا، فعشرات المراسيم المشابهة سَرت مفاعيلها منذ سنوات وأشهر ولم تنشر في الجريدة الرسمية.
وأعقبَ رئيس الجمهورية يومها خطوته بتوقيع «جداول ترقية الضباط» كما صدرت عن قيادة الجيش ووزير الدفاع حفظاً لحقوقهم ولَو لسنوات، بانتظار ان يوقّع وزير المال المرسوم الخاص بالترقيات من دون الحاجة الى قانون يعالج التأخير في تطبيقها وليس بالنسبة الى صدورها.
كان ذلك، قبل ان ينشر رأي مجلس شورى الدولة بناء لطلب وزير العدل مُنتصراً لوجهة نظر رئيس الجمهورية وليحسم الأمر بعدم الحاجة الى توقيع وزير المال. فالمرسوم بحد ذاته لم يعط الضبّاط المستفيدين لحظة صدوره اي مترتّبات مالية على خزينة الدولة.
وهو أمر لا نقاش فيه قبل ان يأتي المردود المالي لبعض الضباط المستفيدين من مرسوم الأقدمية مُتلازماً وصدور مرسوم الترقيات السنوي الذي يعدّه وزير الدفاع بناء لاقتراح قيادة الجيش بلا نَيل موافقة اي طرف آخر، باعتبار انّ هذه المرحلة من الترقيات ليست إلزامية بل هي استنسابية تتحكّم بها القيادة والمجلس العسكري كما يقول به قانون الدفاع عندما يتّصل الأمر بالترقية من رتبة مقدّم وما فوق.
وعليه، يرفض أصحاب نظرية عدم الحاجة الى توقيع وزير المال، الربط الذي أحدثته وزارة المال لتبرير توقيعها بين مفعول مرسوم الأقدمية ومرسوم الترقية لجهة المترتبات المالية، واعتبرت انّ توقيع وزير المال المرسوم الثاني مُلزم لما فرضه من مترتبات مالية ولا يرتبط بمفاعيله بما قال به المرسوم الذي سبقه. فهو لم يستند بكامل مفاعيله عند الترقية الى ما قال به مرسوم الأقدمية، فلم تشمل الترقيات حكماً كل الضباط المستفيدين منه.
وعليه - يقول السيناريو الأكثر واقعية - انّ عين التينة بَنت موقفها من تصرّف رئيس الحكومة منذ اللحظة الأولى على انه شريك في هذا الموقف من المرسومَين ومفاعيلهما.
ولذلك، فهي لم تكن مسؤولة عمّا تمّ تداوله من وساطة ارادها او يستعد لها رئيس الحكومة للفصل في الخلاف مع بعبدا، ولم تعلّق يوماً على هذه المعلومات. فهي - على علم قبل غيرها - انّ رئيس الحكومة لا يمكنه القيام بهذا الدور، وأنّ قراره بوقف نشر المرسوم في الجريدة الرسمية بعد توقيعه، لا يسمح برأيها أن ينال «دور الوسيط» في هذه المسألة، فبقي الحديث عن وساطته بلا أي مفاعيل.
وفي تطورات الأزمة، برزت المهمة التي تَعهّد بها رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي النائب وليد جنبلاط عندما كشف انه تسلّم من بري مبادرة لتسوية الخلاف مع بعبدا، قالت - كما تَسرّب في حينه - بدَمج المرسومين في مرسوم واحد. وكانت المفاجأة ان حَملها النائب وائل ابو فاعور موفَداً منه الى السراي، فيما كان الحريري يستعد للتوجّه الى باريس، فوضَعها في جيبه وطار بها الى العاصمة الفرنسية.
سُئل يومها في بعض الأروقة السياسية، عَمّن أرشَد جنبلاط الى السراي؟ ومن كَلّفه بنقلها الى هناك بدل التوجّه بها مباشرة الى قصر بعبدا المعنيّ بالخلاف؟ فالرئيس بري يومها لم يكن قد قبل بعد بوساطة الحريري، ولم يسجّل له اي نشاط بهذا المعنى إطلاقاً. وهو ما جَدّده أمس بصراحته المعهودة «ما مِن داعٍ للقاء الحريري، فأخباره تصِلني وأخباري تصِله».
وبمعزل عن كل تفاصيل هذه الروايات، يعترف - أحد الوسطاء الجديين - انّ تطورات الأزمة بين بعبدا وعين التينة حول المرسومين والخرق المُدوي للتفاهم الأخير الذي جرى قبل ساعات على نشر فيديو وزير الخارجية جبران باسيل بوَقف الحملات الإعلامية بينهما - وما بلغته الساعات الماضية من تخاطب بلغة البلطجة - دفعت بعين التينة الى استحضار الخلاف السابق مع «بيت الوسط» عندما فوجئ برّي بترشيح الحريري عون لرئاسة الجمهورية، ورغم مرور استحقاقات كثيرة كانت قد دفعت الى طَي تلك الصفحة.
ويختم الوسيط بالقول: «انّ لموقف بري ما يبرره، فما يجري اليوم من تفاهمات بين بعبدا و»بيت الوسط» ليست وليدة تطورات الساعة الأخيرة، بل هي بنظر عين التينة من ثمار التفاهم الذي صيغَ بين الرابية و«بيت الوسط» قبل الإستحقاق الرئاسي. ولذلك لم يعد هناك نقاش في انّ الخلاف بين عين التينة و«بيت الوسط» قائم قبل الخلاف مع بعبدا، وانّ تطور الخلاف مع بعبدا لا ينفي استمرار الخلاف مع «بيت الوسط»، فهما في مواجهة عين التينة، ولَو بِنسَب متفاوتة».