سعادة حاكم مصرف لبنان الأخ الأستاذ رياض سلامة، والإخوة نواب الحاكم المحترمين،
أهدي إليكم، يا سعادة الحاكم، والنواب الأعزاء، التحيات الحارة، من بلدي/ بلدنا الذي يحتل مركزا طليعيا بين الدول، من حيث نسبة الدين العام للناتج المحلي الإجمالي. ومركزا رياديا من حيث نسب التضخم، ومعدلات البطالة، أحييكم من بلد توليتم ولا تزالون منذ ربع قرن مسؤولية سياسته المالية، وحزتم باسم قطاعه المصرفي، جوائز الجدارة والتميز والأفضلية وغيرها، حتى بات أي تفكير بتغييركم أو باستبدالكم مشروع فتنة، ومسبب للإنهيار المالي، والمشاكل الإقتصادية، وحتى استعادة لمفردات الحرب الاهلية.
سيدي الحاكم،
إن العارف أو الدارس بالحد الأدنى للمالية و/أو الإقتصاد، يعلم أن سياسة تثبيت سعر صرف العملة التي اعتمدتموها منذ توليكم حاكمية المصرف، هي سياسة ظرفية إستثنائية، لا يمكن بأي شكل من الأشكال في ظل نظام إقتصادي كالنظام اللبناني أن تتحول إلى سياسية بنيوية قاعدية، لأن لها تبعات خطيرة ومدمرة للإقتصاد في دولة نامية كلبنان، وهذا بالضبط هو ما نشهده، وما سنشهده في المستقبل القريب، إذا استمر المصرف المركزي في عمليات الهروب إلى الأمام كما يحصل اليوم، بالتشديد الأعمى على أولوية تثبيت سعر الصرف بدون أي افق أو خيارات بديلة. علما أنه لا يخفاك يا سيدي الحاكم أن تسعير العملات بعد إنتهاء مفاعيل بريتون وودز بات متعلقا بالأبعاد والعوامل السياسية، ووفرة الموارد، والحضور والتأثير والدور السياسي للدول، أكثر من إرتباطه بالمخزون الإستراتيجي من العملات الصعبة، وكذلك بالذهب وغيره، إلا أنه من المفارقات المضحكة أن تكون عملتنا "الجبارة" قد استطاعت أن "تهزم" بقدراتها الخارقة حتى العملة الأوروبية الموحدة، وتتصدر وحيدة لائحة عملات العالم، ببقائها على نفس القيمة أكثر من عشرين سنة، رغم مرور عشرات المطبات التي كان من الأجدر والأكثر منطقية وواقعية أن يتعامل سعر الصرف معها صعودا أو هبوطا، إلا أن سياسة التثبيت منعت أي تغيير.
هنا المناقشة تبدأ، فهذا التثبيت ليس مجانيا، بل دفع الشعب اللبناني ويدفع فاتورته الباهظة، وفي ظل غياب نشر أي أرقام جدية من جانبكم فيما يتعلق بتكلفة تثبيت سعر الصرف، تشير بعض التقارير السرية الخاصة إلى أن الكلفة الفعلية التي دفعها الشعب اللبناني لذلك فاقت الثمانين مليار دولار في عشرين سنة، علما أن هذا التثبيت المكلف لم يستفد منه فعليا الا الساسة والمصارف الذين نجحوا في خلق ملاذ آمن لأموالهم يتيح لهم الحصول على مردود مالي فلكي، ثم إن حجة التداول بسعر الصرف تشكل أفضل مشروع إستثماري لحكام التسلط الميليشوي، وتتيح لهم إمداد مصرف لبنان بالأموال الطائلة "بواسطة مصارفهم طبعا"، ليسدد بها المصرف خدمة الدين، ويعيدها إليهم مع النسبة الفلكية في مهزلة ما يسمى بـ"سندات الخزينة" التي هي أصلا أداة جيدة وايجابية فقط إذا مورست بهدف تمويل مشاريع إستثمارية وخلق فرص عمل، ولكنها في لبنان تمثل أكبر عملية نصب لمال الدولة ممكنة التحقيق تقوم بها المصارف ومن ورائها مالكيها من الساسة، بالإشتراك مع مصرف لبنان، وتفترض تدخل الادعاء العام المالي.
سيدي الحاكم، إن مبلغ الثمانين مليار التقريبي يعادل الدين العام في لبنان، وقد صرف لتحقيق إنجازات وهمية، فلم تثمر هذه السياسة أي مشروع إستثماري إنتاجي، لم يثمر تثبيت سعر الصرف أي سكة حديد، ولا كهرباء ولا إنترنت، ولا اي مشروع يدر عائدات مالية... بل كل ما أثمره كان تحويل الإقتصاد اللبناني إلى إقتصاد ريعي، أغلق كافة المصانع، وهجر العمال والأدمغة، وجعل من لبنان أضحوكة بين الدول، بحيث نخجل إن سألنا أحد ماذا ننتج في لبنان. فلو استثمرنا كل هذا المبلغ، أو نصفه، في المشاريع الإستثمارية الإنتاجية العملاقة، لكنا اليوم من الدول الصناعية المنتجة، ولما كنا، في القرن الحادي والعشرين، نستجدي ساعات التغذية الكهربائية في ظل التقنين. أخبرنا سيدي الحاكم، ما هي سياسات التصحيح الهيكلي التي اعتمدتها بعد تثبيتك سعر الصرف؟
ما هي الاثار الاقتصادية الايجابية يا سيدي الحاكم لتثبيتك سعر صرف الليرة مقابل الدولار؟ هوذا الواقع المؤسف، كل مصانعنا أغلقت، كل انتاجنا غاب، وأصبحنا بلدا يستورد كل شيء، ولا ينتج شيئا. وباتت غاية كل شخص أن يجمع مبلغا من المال ويضعه في البنك، ويتقاضى نسبة فائدة فلكية عليه ليعيش منه، واستطرادا، زاد الضغط على الليرة، من منطلق طلب العملة الصعبة لزوم الإستيراد، وزادت معه خسارة ميزان المدفوعات، ومعه، زادت كلفة تثبيت سعر الصرف أكثر وأكثر، في ظل عجز الموازنة بنسب خيالية.
ما همي كمواطن لبناني اعيش بالحد الادنى إن كان الدولار ألفا وخمسماية ليرة أو ألفان وثلاثمائة - كما هو السعر الحقيقي للصرف اليوم- لو كانت حاجاتي الأساسية مصنعة في لبنان، وأدفع ثمنها بالليرة اللبنانية؟ أو إذا استطع لبنان تصنيع بدائل الإستيراد، ساعتئذ ندفع بالليرة، (علما أن شركات الهاتف الخلوي الإرهابية على سبيل المثال لا الحصر، ترفض تقاضي الفواتير إلا بالدولار، رغم حساسية هذه الخدمة واستعمالها السيادة الوطنية في البث وإعادة البث). وسعر صرف عملة منخفض في ظل دورة إنتاجية قائمة ليس بالأمر السيء، يكفي أن ننظر إلى الصين واليابان لنعلم ذلك، كما لا يهولن أحد بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا تحرر سعر الصرف، وضبطت فوضى التعامل بالدولار، فالدنيا تهتز ولا تقع، والنموذجين المصري والسوري ماثلين، فلم تصب الدولتان بالمجاعة نتيجة إنخفاض قيمة العملة، رغم كون سوريا تعيش حربا مدمرة منذ عقود.
نحن نعلم، كما تعلم أنت، يا سيدي الحاكم، أن المستفيد الأول من خفض سعر الليرة هو الدولة اللبنانية، إذ يخفف كافة القطاع العام على الخزينة، على عكس المصارف، التي تضع أكثر من 50 بالمئة من ودائعها في سندات الخزينة. واصلا فتخفيض سعر الصرف بات امرا طبيعيا، لا بل لعلك ستجبر عليه قريبا، ولا تنسى، سيدي الحاكم، أن الهندسات المالية التي قمت وتقوم بها لا يمكن ان تفسر على اهميتها إلا تغطية على فساد الطبقة السياسية التي سرقت المال العام، وفشلت في وضع أي سياسة إنتاجية لرفع نسبة الإستثمار وتخفيض التضخم، فثبات الليرة في ظل هكذا مستوى فساد هو حالة نفاق اقتصادي إذا صح التعبير.
سيدي الحاكم، صارح الشعب اللبناني بحقيقة أن "الليرة" ليست على ما يرام، وأن وهم تثبيت سعر الصرف ليس إلا أضغاث أحلام بكلفة خيالية، وآن الأوان لتوقف هذه الكذبة التاريخية، ولوضع أسس لإقتصاد حقيقي، عماده الإنتاج الزراعي والصناعي، وليس العمليات المصرفية الفارغة، وخدعة البالونات الاقتصادية المنفوخة ، التي تنفجر في اي لحظة، ومتى انفجرت، فسيتهدم الهيكل على رؤوس الجميع. حمى الله موطننا، وعملته، من السياسات الخاطئة، وعاش لبنان....